كان اسمها "أمينة"، إلا أنني سمعتهم يسمونها "أومينة"، ورأيت أومينة تجلس على حصير "الخوص" في دارنا بالفريج (حيينا) العتيق حين كنا نمضغ المساء بعرق الظهيرة، ونمضي بعضاً من الوقت في قيلولة ملتهبة من شمس ظهيرة لا ترحم، إلا أن قيلولتنا كانت بدورها تأخذ قيلولة أخرى بغرفة واحدة لوالدي يهز جدرانها الطينية مكيف يتيم وحيد بالمنزل الصغير بجدرانه الطينية... لم يحن وقت القيلولة، فالوقت كان "الضحى العود"، ولم نكن نعرف الوقت بالساعات وإنما بأوقات الصلاة... موعد لصلاة الفجر... موعد لصلاة الظهر، ثم الغداء، ثم لحظة راحة عابرة بغرفة الوالد المكيفة ما بين الصلاتين (الظهر والعصر)، لم يرتح والدي من غرفة "البراد" المصطنعة، فكان يجمعنا مع إخوتي "لنقيل" ساعة أو نصف ساعة بها نتذوق بها نسائم الجنة الغريبة كانت نوراً ضئيلاً في عوالم الجحيم... بعدها يفز لصلاة العصر، كان يعرف وقت الأذان قبل مؤذن مسجد السوق القريب... يصلي بالدار أو المسجد... على حسب الظروف... وكان علي أن أصحبه وهو يسير بعرج على عكازة خشبية جلبها ابنه الأكبر عيسى من "بومبي"، كان يمشي ببطء نحو بيت "الزايرة" أم عيسى زوجته الثانية، لقبها الزايرة أو الزائرة من كثر ما كانت تزور بيت الله كل عام... كانت سيدة قصيرة... تتدثر "بالملفلع" والثوب الأسود وبهما تصير الزايرة قطعة صغيرة من السواد الفاحم لا أرى منه غير وجه من نور السماحة والطيبة. نشرب الشاي... لم يكن "شايي" غير دمعة من ورق الشاي مع ماء ساخن وثلاث ملاعق أو أربع من السكر.

Ad

نسيت في زحام الذكرى "أومينة" العجوز... الطاعنة في السن، قالت لي والدتي إن "أومينة" تجاوز عمرها المئة عام... فكانت "بركة" مفقودة من الزمن وهي روح تعاند الأجل، وهي ترحيل زمني لعالم الموت... لا يهم... فما كان يخيفني من ذلك الزمن فم "أمينة"، فحين كانت تتحدث (ولم أفقه بم كانت تتمتم) تنفتح مغارة صغيرة من الظلام في جوف الحلق... ظلام داكن في عتمة أشد دكناً... لم تكن هناك أسنان تلمع أو يخبو لمعانها في ضوء النهار... وإنما فتحة صغيرة من اللحم الداكن المتهدل باللهاة والحلق الغائر، تطلق أصواتاً غير مفهومة... ربما كانت تتحدث وتشكو عن معاناة الزمن وتشخص فكرة الوجود... ربما كانت "سيمون بوليفار" الخليجية... ولم أكن أدرك وقتها من تكون سيمون ولا غيرها.

لم أر غير فم مظلم ينفتح وينغلق... من غير أصوات... مفهومة... إلا أنني بطفولتي أذكر جيداً... مجاميع من الذباب الصغير والبق الحائم... يدور في حلقة نشيطة حولنا... كنت أتصور أن ذلك البق يأتي من الخارج... إلا أنني أكاد أقسم بذكرى خائبة أنني شاهدت البق يخرج طائراً من فم أومينة حين تتحدث من جوفها العميق... كيف حدث ذلك وكيف أطلقت أومينة قاذفات البق من فوهة فمها العميق...؟ وهل يمكن أن تتوالد من أفواه البشر الأحياء الحشرات...؟ لا أدري... إلا أنني على يقين اليوم من أن أفواه الكثيرين من أهل الصوت المتزلف بزمن تقبيل الأيادي والأكتاف أصبحت مصنعاً متنقلاً لتفريخ يرقات الحشرات... رحم الله أومينة أم البق و"الصيبان".