الموسيقى تتدفّق، وعيني وأذني على شاشة التلفزيون. الكتابُ بين يدي، وعيني وأذني ورأسي متجهة صوب الليبيين الذين لمْ أرهم منذ اثنتين وأربعين عاما. أحدق وأتأمل: كم يبدوا الحدث في عراق صدام حسين 1991! كنت أمام شاشة التلفزيون عاجزا أتأمل الشعب الذي لم أره منذ عشرين عاما، يخرج إلى الشارع، ليسهم ولو بالحجارة في إسقاط دكتاتوره.

Ad

طاغية وابنان، يقول أحدهما لليبيين: إنْ تركنا فسنترك ليبيا خرائب. عُدي صدام حسين أعلن ذلك بصوت مرتفع أيضا. يحاول الأول الآن أن يحطم ويقتل بيده، وبيد مرتزقة مستأجَرين. والثاني خطط لفعل ذلك بعده، على يد خلايا حزبه وخلايا الإرهاب العالمي.

الاثنان كانا بالغيْ الحماقة، والقدرة على القتل. الأول يقتل شعبه جماعات، والثاني يقتلهم فرادى. وكلاهما مبعث خوف وتندر. والعجيب أن كليهما أميرُ مؤمنين، يملك نظرية لخلاص الكون، ويؤلف الكتب ليهتدي بها الناس.

وإذ حان الحينُ لم يكن من مهرب لدكتاتور العراق، ومن يستقبل صدام الهارب وقد أهان القاصي والداني؟ وما من مهرب لدكتاتور ليبيا الذي لم يكن أقل غطرسة وحماقة. وإذا لاذ الأول كالجرذ في حفرة، فإن الثاني لن يجد الحفرة التي يلوذ فيها، وقد اختار أن يترك ليبيا خرائب.

وإذا احترق الابنان في بغداد على يد الأميركان، فالابنان في طرابلس سيحترقان على يد شعبهما. وإذا كانت أنظمة العالم، وأنظمة العالم العربي خرساء في الأولى بفعل الروْع، فإنها في الثانية خرساء بفعل الجبن.

في حديث سابق حول تونس ومصر (الجريدة 3 فبراير)، تساءلتُ: «هل من بلد عربي آخر يمكن أنْ يُقرن بعراق صدام حسين، بحيث تبدو انتفاضة الشعب المنهك فيه شبه مستحيلة دون استعانة بالخارج، كما حدث في العراق؟ أعتقد أن ليبيا القذافي أقربُ المرشحين لهذا الشبه، فالشعب الليبي غُيّب في العتمة، خارج التاريخ، أكثر من نصف قرن، ولم تعد رئته متعافية».

الآن أسمع أنفاس الليبيين تكشف عن رئة متعافية. على أن نظرتي السابقة لم تكن ضالة تماما، لأن الرئة المتعافية وحدها قد لا تكفي لمواجهة دكتاتور من طراز صدام حسين والقذافي وعائلتيهما. صدام في المواجهة استعمل الكيمياوي، والمرتزقة من العرب والأجانب ضد شعبه الأعزل. القذافي يستخدم القصف الجوي، والمرتزقة الأفارقة بالطريقة ذاتها. العراقيون لم يترددوا في الاستعانة بالخارج، والليبيون يناشدون العالم العربي والعالم أجمع بالتدخل. أمر لم يحدث في تونس ومصر. ولعله لن يحدث مع البقية الباقية من العالم العربي، الذي ينتفض تباعا.

حين أطل سيف الإسلام من شاشة التلفزيون ليقول ما قال، كنت أقرأ في وجهه سلطة الطاغية الباردة. ما من شيء ينم عن حدث في التاريخ، يتفجر حوله دما وخرائب. إنه خارج الزمان. وهو يختلف عن عدي وقصي ابنيْ صدام، لا في الشراسة، بل في الدراية والخبرة والمخاتلة. إنه ابن البحر المتوسط المحاذي لأوروبا، تعلم منها التوجه المنطقي، لا العقلاني بالضرورة. حزم الشعب الليبي بين يديه كحزمة القصب، وأبدى رغبته في تعريضها للنيران. وطلب، لكي لا يفعل، أن يستجيب الناس لشروطه في بناء دولة «المُثُل اللفظية»، من أجل ليبيا، لا من أجل شعب ليبيا بالتأكيد. وعلى الناس أن تفهم أن هناك فارقا سريا بين ليبيا والشعب الليبي. الأولى خلقها الله أن يُضحى لها. والثاني خلقه الله أن يقدم التضحية. هذا المعيار المقدس الذي وفرته عبقرية القرن العشرين الغابر لمفهوم «الثورة الانقلابية».

الشعب الليبي يتعرض اليوم لما تعرض له العراقيون في انتفاضتهم عام 1991. كنا نقول آنذاك إن الشعب سينتصر، ولكن العالم ترك الدكتاتور صدام حسين ينفرد بشعبه الأعزل، يقتلهم أفرادا، ويقبرهم جماعات، في مجزرة ملأت رائحتُها رئةَ التاريخ الحديث. اليوم، هل سيترك العالم هذا الشعب الذي غيّبه القذافي 42 عاما، بالطريقة ذاتها، يُفرَد أعزلَ بين مخالب الماكنة القذّافيةِ الشرسة؟