كانت دهشتي كبيرة، عندما قرأت الجزء الأول، من إعلان الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية، من خلال مقابلة مع شبكة "سي إن إن" الإخبارية، الذي يقول فيه إن "العراق لا يحتاج إلى وجود ثابت، أو قواعد عسكرية في العراق، وإن القوات الأمنية العراقية بإمكانها مع نهاية 2011 مواجهة جماعات العنف المسلح في العراق، وحماية الأمن الداخلي".

Ad

أما الجزء الثاني من تصريح علي الدباغ، فمقبول وواقعي. وكلنا من عراقيين وعرب ننادي به، ونأمل تحقيقه وليست فقط الحكومة العراقية. وهو الذي قال إن "العراق يسعى إلى بناء قواته الأمنية والدفاعية، لحماية أمن مواطنيه، ووحدة ترابه وسيادته، ضمن علاقات ثنائية مع دول المنطقة، ونزع بذور التوتر والخلاف، والتدخل في الشؤون الداخلية، وبناء علاقات، ومصالح إقليمية تؤمن استقرار ووحدة العراق" وإن كان في هذا التصريح الكثير من الإنشائية، والكلام المكرر.

الرأي الآخر الأكثر واقعية وصدقاً

ولكن لماذا كانت دهشتي عظيمة، عندما سمعت وقرأت الجزء الأول من تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية؟

السبب المباشر في هذه الدهشة، أنني قلبتُ الصفحة يومها، فوجدت في الصفحة الأخرى تصريحاً أكثر واقعية، وأكثر صدقاً، وأكثر شجاعة وشفافية من تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية. وهو تصريح رئيس أركان الجيش العراقي الركن بابكر زيباري في 11/8/2010، عندما قال بكل شجاعة، وموضوعية، وبمسؤولية وصدق الجندي الباسل، إن "الجيش العراقي لن يكون قادراً تماماً على تولي الملف الأمني قبل 2020، وسيكون بحاجة إلى الدعم الأميركي حتى ذلك الحين. وأضاف زيباري في مؤتمر عُقد لتقييم "جاهزية" القوات الأمنية لحماية البلاد، بعد انسحاب القوات الأميركية، أن "إستراتيجية بناء القوات تسير على ثلاث مراحل مهمة جداً، ويجب الحرص عليها". وعن انسحاب القوات الأميركية، يرى زيباري أنه "على السياسيين إيجاد أساليب أخرى لتعويض الفراغ لما بعد 2011، لأن الجيش لن يتكامل قبل عام 2020".

وقال في عبارة خطيرة، ودالة: "لو سُئلتُ عن الانسحاب لقلتُ للسياسيين، يجب أن يبقى الجيش الأميركي حتى يتكامل الجيش العراقي عام 2020".

أسئلة مريرة وحائرة

والأسئلة المريرة والحائرة التي يثيرها هذان التصريحان (تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة وتصريح زيباري رئيس الأركان) هي:

- أيّاً من هذين التصريحين نصدق: تصريح الناطق باسم الحكومة العراقية، أم تصريح العسكري العارف، والمدرك عسكرياً وأمنياً لمعنى الانسحاب العسكري الأميركي النهائي من العراق، عام 2011؟ ففي حين يقول زيباري إن العراق بحاجة إلى عشر سنوات من الآن، للاستعداد والتأهيل لكي يستطيع حماية نفسه بنفسه، يقول الناطق الرسمي باسم الحكومة، إن العراق جاهز الآن لحماية نفسه بنفسه؛ أي أن الفرق ليس يوماً أو يومين، أو شهراً أو شهرين، أو سنة أو سنتين، ولكن الفرق بين 2011 وهو عام السياسة، و2020 وهو عام الجندية، عشر سنوات.

- كيف يمكن أن يكون الفرق بين حساب السياسيين العراقيين المتسابقين تسابقاً محموماً على المناصب والمنافع الشخصية والعائلية، وبين حساب العسكريين عشر سنوات كاملة؟

- هل يلقي سياسيو العراق الكلام على عواهنه، ويدلون بالتصريحات كيفما اتفق، وكيفما اتفقت هذه التصريحات والقرارات المصيرية مع مصالحهم الشخصية، بينما الجنود المسؤولون كبابكر زيباري يحسبون خطواتهم بدقة متناهية، ويزنون تصريحاتهم بميزان الذهب الدقيق، لأنهم معنيّون بالموت، وحياة العراق والعراقيين بالدرجة الأولى؟ ويبدو أن السياسيين العراقيين الناعمين بالمنطقة الخضراء، لا هَمَّ لهم، ولا هُمْ يحزنون. فها هُمْ العراقيون يموتون كل يوم بالعشرات والمئات، من عناصر الإرهاب، ومن حرارة الطقس، ومن انقطاع الكهرباء، ونقص وسوء الخدمات العامة، والانفلات الأمني، بينما السياسيون يقبعون في "المنطقة الخضراء" هانئين، ناعمين بالخيرات المختلفة. ويقبضون في كل شهر أعلى مرتبات للسياسيين في العالم. فبلغ المرتب الشهري للنائب - مثالاً لا حصراً- في البرلمان العراقي 28 ألف دولار إضافة إلى مئتي ألف دولار سنوياً، يتم دفعها له على دفعتين، كل ستة أشهر. إضافة إلى كثير من الامتيازات الخاصة بالحراسة، والإقامة، والسفر، والطبابة، والتعليم، وخلاف ذلك. وهذا يعني أن دخل النائب العراقي السنوي بعد التخفيض المزمع (10 في المئة) سيكون نصف مليون دولار! ولعل هذا سر تكالب الزعماء السياسيين على الترشح والفوز بعضوية مجلس النواب! في حين أننا لا نعلم شيئاً عن دخل الوزير العراقي، ورئيس الوزراء، ورئيس الجمهورية، وغيرهم من الرسميين، مما دفع بعض الصحافيين، إلى دعوة "الندّابات" للندب والبكاء على العراق، الذي كان!

- إلامَ استند سياسيو العراق في الاتفاقية الأمنية الموقعة مع أميركا، والتي بموجبها وافقوا على انسحاب أميركا من العراق نهائياً عام 2011؟

هل استندوا إلى "جاهزية" الجيش والأمن العراقيين، اللذين قال عنهما بابكر زيباري في الأمس إنهما لن يكونا جاهزين إلا في عام 2020؟ أم انهم استندوا إلى دعم ومساندة الشعب العراقي، الذي ذاق الأمرين من هؤلاء الساسة، الذين سرقوه، ونهبوه، وغدروا به، وتركوه نهباً، وفريسة للإرهاب، والغلاء، وسوء الخدمات، وراحوا يتصارعون صراع الوحوش الكاسرة، على الفريسة العراقية؟

وأخيراً: إن مستقبل العراق القريب مخيف، ومظلم، رغم تفاؤل كثير من الزملاء المفكرين، والباحثين، والكتاب. أما أنا فمتشائم- على غير عادتي- ولعل سرَّ تشاؤمي اليوم، هو هذه الأسئلة الصعبة والحائرة، التي طرحتها، دون أن أعثر لها على إجابة شافية.

* كاتب أردني