عش اللحظة
في عالم مليء بالجلبة والصخب غالباً ما يتوه الإنسان عن ذاته، وغالباً ما يكون ضحية طيّعة لذهن لا يكف عن الأزيز والطنين! ذهن يقظ لا ينام، يأمر وينهى ويجادل ويحلل ويحاكم، في سلسلة من العمليات الذهنية المستمرة بلا توقف! ومن وراء هذا الذهن الهادر بالجلبة والطنين تتداعى العواطف والمشاعر من غضب وخوف وقلق وفرح ومرارة ونزق.. إلخ، تبعاً لمثيراتها من أفكار ذهنية، لتصوغ في النهاية أمزجتنا اليومية وملامحنا النفسية. ولو تأملنا هذا الكم من الهدر الذهني المستمر، لوجدنا أنه يصب في اتجاهين اثنين: تحليل الماضي واستعادة آلامه ومسراته، أو القلق من المستقبل والانشغال بسلسلة من التوقعات المتوهمة. وخلال هذا السياحة الذهنية المرهقة بين الماضي الذي انتهى والمستقبل الوهمي، تضيع «اللحظة الآنية»، وهي أثمن ما يملك الإنسان وأقدسه، لأنها الحياة الحقة.
ولعل سر شقاء الإنسان ومعضلات عيشه وألوان عذاباته الجسدية والنفسية، تكمن جميعها في الاستسلام لأزيز الذهن الذي يفترس عافية الإنسان وطمأنينته افتراساً، ولا ينفك يتأرجح به بين الماضي والمستقبل بلا هوادة. وعادة ما تتم هذه العمليات الذهنية باللاوعي، فينجرف الإنسان إلى هذا النمط من الحياة الذهنية الضاجة بالأزيز كما تنجرف حُطامة الخشب في لجة البحر. ويبدو أنه لا مفرّ أمام الإنسان للخلاص من هذه الدوامة الطاحنة إلا بالتيقظ التام، وإلا بالوعي بضرورة لجم التراسل الذهني، وربط مرساته باللحظة الآنية، وإلا باليقين بأن العيش في اللحظة والشخوص في الحاضر هو خلاصه وسعادته وغبطته الروحية الخالصة. ويمكن تدريب النفس على هذا اللون من الرياضة الروحية بمحاولة تركيز الذهن والغوص داخل كياننا الجسدي، والمراقبة المتأنية للتنفس في الشهيق والزفير، ثم في استشعار حقل الطاقة السارية في أعضاء الجسم وهي تسترخي عضواً عضواً، ابتداءً من القدمين صعوداً حتى الرأس. أما باقي طقوس العيش في اللحظة فتتمظهر في تركيز الإحساس فيما نفعله ونشهده، في ملمس الأشياء، في الروائح والأصوات، في حفيف غصن، ووشوشة الماء، ونكهة الأطعمة، في الخلو المطلق إلى ما نعمل ونمارس من أنشطة الحياة، في الإصاخة إلى الموسيقى أو مشاهدة فيلم أو ملاعبة الأطفال أو الاستغراق في الصلاة، مع الحرص أثناء كل ذلك على استشعار كل لمسة وحركة ونظرة وإيماءة. وبذلك يتدفق فينا سيال الحياة الآنية بنضارتها وامتلائها، لا أن يعبرنا كقطار سريع ويخلفنا وراءه كبقايا الهشيم. كنتُ وما أزال أحاول تعلم بعض الدروس الثمينة حول استثمار «اللحظة» وطرح أثقال الماضي وهواجس المستقبل، من كتاب صغير في حجمه ووزنه بعنوان: Practising The Power of Now، وهو بغض النظر عن اسم مؤلفه عبارة عن جماع من الأفكار تأسست وذاعت طروحاتها عبر الفلسفات الروحانية الشرقية، ويأتي على رأسها فلسفة «الزن» Zen. ولعل من أجمل ثمار «الزن» التي تمخضت عن تلك الفلسفات والممارسات ما يتجسد في لون من الشعر التأملي الرقيق، وهو ما يُعرف بـ»الهايكو». والهايكو عبارة عن مقطوعات شعرية لا تزيد الواحدة منها على ثلاثة أشطر أو أبيات، ولكنها قصيدة فريدة، وثمرة إفراط في الدقة، تتدلى كأيقونات صغيرة لا تكشف عن عذوبتها إلا للأذهان الحفيّة والقلوب المتيقظة. الهايكو هي بساطة ورشاقة، وتعرية للجوهر، إنها الزمن المرصود للصمت، لحظة هاربة، فرصة ممنوحة لنستغرق في كل شيء، لنتأمل كل شيء بحب وسكينة في ومضة ثلاثة أبيات من الشعر. وطالما كان الهايكو الفن الأكثر ألفة وتعبيراً عن طمأنينة النفس وغبطتها لدى معلمي الزن، يزجونه لتلاميذهم ومريديهم ليعرّفوهم الطريق الأمثل لقطف ثمار السلام والسكينة الحقة. إن ما نحتاجه حقاً، ونحن نعبُر هذه الحياة الصاخبة، هو إدراك مدى قدسية وجمال الشخوص في لحظتنا الراهنة، ففيها يكمن السكون والرسو إلى الذات الجوانية، وفيها يتحقق القرب من الجوهر الكامن فينا في تواصله مع الزمن المطلق، وهو زمن سكوني ونوعي تتلاشى فيه الانتظارات المؤلمة والتوقعات المقلقة. زمن تكون فيه النفس في أقصى درجات خفتها وغبطتها ودنوها من ذاتها الحقيقية المضيئة المتخطية لحواجز المظهر والمادة، والمتماسّة مع مصدر الحب والنور الحقيقيين.