فرانكشتين يقتل وحشه
ألف مبروك للإنسانية مقتل رمز التطرف والجنون الدينيين الإرهابي أسامة بن لادن، ولا عزاء لمخابيله وأتباعه من الواهمين بأن التاريخ يمكن أن يرجع إلى الوراء، وأن «غزوة منهاتن» (بتعبير د. عبدالله النفيسي) هي صرخة وامعتصماه التي سيزيل فيها مجاهدو أهل الإبل أهل حضارة المكوك الفضائي وطائرات ستيلث... لننتهي في ما بعد إلى أن العرب والمسلمين هم الذين دفعوا (ومازالوا) الثمن الغالي لجزاري القاعدة، فهم الأكثر ضحايا لجرائم العنف والإرهاب في دولهم، وكان العراق الأرض الخصبة لحثالة «المجاهد الشهيد بن لادن»، وهم العرب الذين امتهنت كراماتهم وتم تصوير الشعوب العربية على أنها مجاميع متخلفة قبلية عنصرية تهوى سفك دماء من لا ينتمي إليهم بالدين (أو حتى الطائفة الدينية)، واستغل الصهاينة تركة بن لادن الثقيلة لكسب الرأي العام العالمي لجانبهم، وكان هذا أعظم كسب للدولة الإسرائيلية وقوى اليمين المتطرف في الغرب.تذكروا أن بن لادن لم يأت من فراغ، فهو وحش فرانكشتين الذي انقلب على صانعه، وهو نتاج الزواج اللاشرعي بين المصالح الإمبريالية ودول «البترو دولار»، فقد جندته المخابرات الأميركية وعلى نفقة دول الخليج ليجاهد ضد السوفيات في أفغانستان في مطلع الثمانينيات، وقدم هؤلاء الجهاديون أعظم خدمة عجلت بعجلة سقوط الدولة السوفياتية بعد أن أنهكتها مالياً «حرب النجوم» وحروب بن لادن المجنون، أذكر هنا في الكويت أن البعض كانوا يأخذون إجازة مدفوعة كامل الأجر مقابل الجهاد هناك، وكانت لهم ميزات ومنافع أخرى كانت الكويت وشقيقاتها الخليجيات تنظر إليها بعين العطف والرعاية، ثم انتهت حرب الجهاد هناك ليبدأ جهاد آخر ضد دولنا بعد دخول القوات الأميركية السعودية لتحرير الكويت... وانقلب السحر على الساحر وبزغ نجم أسود الجزيرة في الكويت وهم فروع من شجرة القاعدة أصلها ثابث في تراب التخلف النفطي وفروعها تمتد لكل دولنا العربية والإسلامية.
قوى الإرهاب الديني تستمد قوتها وعنفوانها من فشل مشروع الدولة العربية الحديثة، فمن تراب الاستبداد والفساد في الأنظمة العربية وجدت جماعات بن لادن الأرض الخصبة، ومن جهل وحماقات أنظمتنا واستغلالها التدين العفوي لشعوبها بغرض خلق شرعيات الحكم حين غابت الشرعية الدستورية الليبرالية نهض الإسلام السياسي، فلم يعد كافياً في دول القبائل الإسلامية أن تكون مسلماً بل لابد أن تكون «إسلامياً» تمقت الآخرين وتبحث عن فرصة للانتقام من المستعمر الأجنبي الكافر، وانتهوا إلى تكفير حتى المسلمين الذين لا ينتمون إلى وعيهم البائس.ثورات الربيع العربي ربما تسحب البساط من تحت أقدام أهل الجهاد، لكن لنكن متأكدين أن تلك الثورات ليست مثل الثورة الفرنسية قبل قرنين حين وضعت الحدود الفاصلة بين الديني والدنيوي، وهي ليست مثل ثورات أوروبا الشرقية في العقدين الأخيرين، فتلك دول لها وعيها الحضاري لا قبائل ترفع أعلاماً مع استثناء مصر وتونس والمغرب. مشوارنا نحو تكوين الدولة الأمة سيكون طويلاً، فبن لادن ليس شخصاً أرداه قتيلاً قناص ماهر، بل هو جرثومة تعيش في جسد أنظمتنا الحاكمة ويحيا كالقمل في الرأس العربي، يتغذى من دماء الجهل والفقر وغياب التعليم والثقافة الإنسانيين.