ألاعيب الذاكرة لا تنتهي، ولا تنفك تفاجئ صاحبها بقفزاتها إلى حيث لا يتوقع، لذا كانت مفارقة صارخة أمام وعيي أن تتداعى ذكرى ذلك المحل الضيق لبائع الكتب الوحيد في سوق الزبداني، ذاك الذي كان قابعا بين محال الأقمشة والأدوات المنزلية والتسجيلات الغنائية وألعاب الأطفال، ومطاعم الشاورما والفلافل والحمص، في ذات الوقت الذي كنت أدخل فيه واحدة من المكتبات الضخمة التي تكاد توجد في كل شارع من شوارع روما.
كثرة المكتبات في روما، وضخامتها بهذا الشكل المهيب، هو دليل واضح على أن هذه الشعوب، أعني الشعوب الغربية، هي شعوب قارئة بنهم، مهما حاول البعض منا أن يقلل من شأن هذه الحقيقة، وأن يتهم قراءاتهم بالسطحية والهامشية، وأنها روايات وقصص في غالبها، لأنه لا يمكن أن تنتشر المكتبات بهذا الشكل، إلا لأن هناك إقبالاً حقيقياً على اقتناء الكتب، وقوة شرائية مقنعة للتجار تبقيهم في هذا المجال.ولا أظن أن لي حاجة لأستذكر ذاك الحديث المكرر بأن رقي هذه الشعوب وتقدمها مرتبطان بشغفها بالقراءة، وأن ابتعادنا في المقابل عنها، هو الذي جعلنا في ذيل الأمم، وفي قاع سلم الحضارات، أم أن هناك حاجة لتكرار هذا يا ترى؟!على أي حال، لندع هذا ونعد إلى صاحبنا بائع الكتب في الزبداني، وكأني الآن فهمت سبب ذلك التعاطف الكبير الذي شعرت به نحوه، والذي أظنه نبع من شعوري بأزمتنا المرتبطة في يقيني بابتعادنا كشعوب عن الكتب، وعن الثقافة بصورها المختلفة. تعاطفت مع الرجل، بالرغم من غلاء أسعار كتبه بعض الشيء، حيث كنت سعيداً وأنا أشتري منه دون مساومة، وكأني كنت أساهم بطريقة ما بدعم صموده وبقائه سابحاً عكس تيار كل المحال والمتاجر الأخرى التي كانت تندفع من حوله في الاتجاه المعاكس تماما.الظريف أن هذا البائع، وحين دخلت محله للمرة الأولى، حاول أن يغريني بعناوين الكتب العربية الفضائحية الشهيرة، تلك التي تلعب على أوتار الثالوث المحرم الشهير، والتي تدور في أفلاك السياسة الممنوعة، والكتابات الإيروتيكية الصارخة والشاذة، والتي تحاكم الدين وتتشكك فيه بغير موضوعية، وكأنه يستجديني للشراء، وحين آنس برودي نحوها، وانصرافي إلى عناوين بعيدة عنها تماماً، وتصفحي لكتب من طراز آخر، تغير مسلكه تماماً، وتباسط معي، فتصاحبنا وصار، غسان، وهذا اسمه، يشكو لي همومه ومعاناته عبر السنوات للبقاء على قيد الحياة بائعاً للكتب، وإذا بنا نقضي الوقت نتحدث حول القراءة والثقافة وأزمتهما في العالم العربي، وغربة المثقف ومعاناة الكاتب وندرة القارئ.يقول غسان: إن بعض الزبائن وحين يدخلون لشراء كتاب ما، ويسألون عن سعره، يحملونه بأيديهم وهم يهزونه بأيديهم كمن يزن بطيخة، فيحاولون مساومتي على سعره وكأن قيمته في وزنه وكمية أوراقه وما فيه من حبر وألوان!إذن فالوضع عندنا مزرٍ بلا شك، كما انتظار هبوط الإنقاذ والإصلاح من الساسة هو انتظار سيطول، خصوصاً ونحن نشهد هذه الأيام ذات الضجة الحكومية/البرلمانية/الإعلامية الباردة الباهتة التي تجري كل عام على مشارف عقد معرض الكتاب السنوي، حول الرقابة على الكتب، وحول ما يجب منعه وما لا يجب.لكن هذا لا يضايقني كثيراً في الحقيقة، لأني أدرك أن من يريد قراءة كتاب ما، ولديه تلك الحرقة المعرفية الحقة للوصول إليه، فلن يعسره القفز فوق كل حواجز الرقابة بألف طريقة وطريقة. نعم أدرك أن مسألة رفض الرقابة هي مسألة مبدأ، ولكنني اليوم أعيش همّ نشر المعرفة والثقافة بين عموم الناس، ممن لا تعنيهم الكتب الممنوعة بشيء، أكثر بكثير من عيشي همّ رفض الرقابة على الكتب كمسألة مبدأ!أنا ما عدت اليوم مشغولاً كثيرا بالمصارعة والمناطحة، ولكن صرت أومن بأن التغيير والإصلاح يبدأ من كل فرد على مستوى نفسه أولاً، وأن على كل إنسان أن يكون هو التغيير الذي يود أن يراه في العالم، كما قالها غاندي قبل عشرات السنوات، وبالفعل، فلو كنس كل واحد منا أمام بيته، لأصبح العالم بأسره نظيفاً، فلنبدأ بتثقيف أنفسنا أولاً، ولنقرأ... لنقرأ كثيراً جداً، حتى نصل إلى تلك المرحلة التي لا يكفينا فيها المتاح من الكتب، ونحتاج إلى كسر الرقابة. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
بائع الكتب في الزبداني
30-09-2010