لعل الأمر الأبرز والأكثر إذهالاً الذي توصل إليه تقرير التنمية البشرية السنوي العشرين التابع للأمم المتحدة، الصادر أخيراً، كان الأداء المتميز الذي أبدته البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فهنا احتلت تونس المرتبة السادسة بين 135 بلداً فيما يتصل بتحسن مؤشر تنميتها البشرية على مدى العقود الأربعة السابقة، قبل ماليزيا، وهونغ كونغ، والمكسيك، والهند، ولم تتخلف عنها كثيراً مصر التي جاءت في المرتبة 14.

Ad

إن مؤشر التنمية البشرية عبارة عن مقياس للتنمية التي تحقق إنجازات في مجالات الصحة والتعليم إلى جانب النمو الاقتصادي، والواقع أن أداء مصر (خصوصاً) تونس كان طيباً بالقدر الكافي على جبهة النمو، ولكن أداء البلدين كان بارزاً بشكل خاص فيما يتصل بهذه المؤشرات الأوسع نطاقا، وتكاد تونس بمتوسط العمر المتوقع الذي بلغ 47 عاماً تضاهي المتوسط في المجر وأستونيا، حيث يبلغ مستوى الثروة أكثر من ضعف مثيله في تونس، وفي مصر يواظب نحو 69% من الأطفال على الذهاب إلى المدارس، وهي نسبة تضاهي مثيلاتها في بلدان أكثر ثراءً مثل ماليزيا، ومن الواضح أن مثل هذه البلدان لم تفشل في توفير الخدمات الاجتماعية أو توزيع منافع النمو الاقتصادي على نطاق واسع.

ولكن في النهاية لم يكن لكل هذا أهمية كبرى، فقد كان التونسيون والمصريون، في صياغة جديدة لتعبير هاورد بيل، غاضبين كالجحيم إزاء تصرفات حكوماتهم، وعازمين على عدم قبولها بعد الآن أبداً، وإذا افترضنا أن زين العابدين بن علي في تونس أو حسني مبارك في مصر كانا يأملان في الفوز بالشعبية السياسية في مقابل المكاسب الاقتصادية، فلابد أنهما أصيبا بالإحباط الشديد الآن.

إن الدرس المستفاد من العام العربي «المذهل» إذن يتلخص في أن الأداء الاقتصادي الطيب لا يعني في كل الأحوال الأداء السياسي الطيب؛ فالانفصال بين الأمرين وارد لبعض الوقت. صحيح أن بلدان العالم الغنية تكاد تكون كلها ديمقراطية، ولكن السياسة الديمقراطية لا تشكل شرطاً ضرورياً أو حتى كافياً لتحقيق التنمية الاقتصادية على مدى فترة زمنية تمتد لعدة عقود من الزمان.

على الرغم من التقدم الاقتصادي الذي أحرزته بلدان مثل تونس ومصر، وغيرها من بلدان الشرق الأوسط، فقد ظلت هذه الدول رازحة تحت وطأة أنظمة مستبدة تتحكم بها مجموعة ضيقة من المقربين، ويستشري فيها الفساد والمحسوبية والمحاباة، والواقع أن هذه البلدان تحتل مراتب مشينة فيما يتصل بالحريات السياسية والفساد، على نحو يتناقض بشكل صارخ مع المراتب التي تحتلها على مؤشرات التنمية.

فعن تونس، أصدرت مؤسسة دار الحرية قبيل اندلاع «ثورة الياسمين» تقريراً يقول: «إن السلطات تواصل التضييق على الصحافيين والمدونين وناشطي حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين للحكومة واعتقالهم وسجنهم»، ولقد احتلت الحكومة المصرية المرتبة 111 بين 180 دولة في مسح الفساد الذي أجرته مؤسسة الشفافية الدولية لعام 2009.

وبطبيعة الحال، نستطيع أن نقول إن العكس صحيح أيضاً: فقد كانت الهند دولة ديمقراطية منذ استقلالها في عام 1947، ورغم ذلك فإنها لم تبدأ بالإفلات من «معدل النمو الهندي» المتدني إلا في أوائل ثمانينيات القرن العشرين.

أما الدرس الثاني فهو أن النمو الاقتصادي السريع لا يستطيع أن يشتري الاستقرار السياسي بمفرده، ما لم يُسمَح للمؤسسات السياسية بالنمو والنضوج بسرعة أيضا. والواقع أن النمو الاقتصادي في حد ذاته يعمل على توليد الاستنفار الاجتماعي والاقتصادي، الذي يشكل المصدر الأساسي لعدم الاستقرار السياسي.

وعلى حد تعبير العالم السياسي الراحل صموئيل هنتنيغتون قبل أربعين عاماً: «فإن التغير الاجتماعي والاقتصادي- التحضر، وزيادة مستويات الثقافة والتعليم، والتصنيع، وتوسع وسائل الإعلام الجماهيري- يعمل على توسيع مساحة الوعي السياسي، ومضاعفة المطالب السياسية، وتوسيع مجال المشاركة السياسية». والآن بإضافة وسائل التواصل الاجتماعي مثل «تويتر» و»فيس بوك» إلى المعادلة، فإن القوى المزعزعة للاستقرار التي يطلقها التغير الاقتصادي السريع قد تصبح غامرة وساحقة.

إن هذه القوى تبلغ أوج قوتها عندما تتسع الفجوة بين الاستنفار الاجتماعي ونوعية المؤسسات السياسية، وعندما تكون المؤسسات السياسية في أي بلد ناضجة، فإنها تستجيب للمطالب الصاعدة من الأسف من خلال الجمع بين الاستيعاب والاستجابة والتمثيل. وحين تكون هذه المؤسسات متأخرة فإنها تمنع هذه المطالب وتحجبها على أمل أن تتلاشى من تلقاء ذاتها، أو تغطي عليها بتوفير بعض التحسينات الاقتصادية.

والواقع أن الأحداث الجارية الآن في الشرق الأوسط تبرهن بوضوح على هشاشة النموذج الثاني، فالمتظاهرون في تونس والقاهرة لم يحتجوا على الافتقار إلى الفرصة الاقتصادية أو الخدمات الاجتماعية الهزيلة، بل احتشدوا ضد نظام سياسي شعروا أنه ضيق الأفق، وتعسفي، وفاسد، ولم يسمح لهم بالقدر الكافي من حرية التعبير.

إن النظام السياسي القادر على التعامل مع هذه الضغوط لا يحتاج إلى الديمقراطية على الطريقة الغربية، فبوسعنا أن نتخيل أنظمة سياسية مستجيبة لا تعمل من خلال الانتخابات الحرة والمنافسة بين الأحزاب السياسية. وقد يشير البعض إلى عمان أو سنغافورة باعتبارهما مثالين لأنظمة استبدادية ثابتة في مواجهة التغير الاقتصادي السريع، ولعل الأمر كذلك بالفعل، ولكن النوع الوحيد من الأنظمة السياسية الذي أثبت ذاته على مدى فترة زمنية طويلة هو ذلك النوع المرتبط بالديمقراطية الغربية.

وهو ما يقودنا إلى الصين، ففي ذروة الاحتجاجات المصرية، كانت النتيجة التي ظهرت لكل متصفحي الإنترنت الذين بحثوا عن كلمة «مصر» أو «القاهرة» هي «تعذر العثور على أي نتائج»، ومن الواضح أن الحكومة الصينية لا تريد لمواطنيها أن يطلعوا على الاحتجاجات المصرية فتأخذهم أفكارهم إلى بعيد، وفي ظل ذكرى «ميدان السلام السماوي» الحاضرة دوماً في الأذهان فإن قادة الصين عازمون على منع تكرار ما حدث.

إن الصين ليست تونس أو مصر بطبيعة الحال، فقد جربت الحكومة الصينية الديمقراطية المحلية، وبذلت محاولات قوية للقضاء على الفساد، ورغم ذلك، انتشرت الاحتجاجات طيلة العقد الماضي، حتى أن الحكومة سجلت نحو 87 ألف حالة مما أطلقت عليه «حوادث جماهيرية مفاجئة» في عام 2005 وحده، وهو آخر عام نشرت فيه الحكومة مثل هذه الإحصاءات، وهو ما يشير إلى أن المعدلات قد تزايدت منذ ذلك الوقت، ويتحدى المعارضون سيادة الحزب الشيوعي الصيني على مسؤوليتهم.

إن حكام الصين يراهنون على الزيادة السريعة في مستويات المعيشة وفرص العمل ويتصورون أن هذا من شأنه أن يبقي الغطاء محكماً على التوترات الاجتماعية والسياسية المختمرة، ولهذا السبب فهم حريصون كل الحرص على تحقيق مستويات نمو اقتصادي سنوية لا تقل عن 8%، وهو الرقم السحري الذي يعتقدون أنه قادر على احتواء الصراع الاجتماعي. ولكن مصر وتونس أرسلتا للتو إلى الصين وغيرها من الأنظمة الاستبدادية في أنحاء العالم المختلفة رسالة إيقاظ قوية: «لا تعولوا على التقدم الاقتصادي في إبقائكم على عروشكم إلى الأبد».

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي بكلية جون ف. كينيدي للدراسات الحكومية بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «اقتصاد واحد ووصفات عديدة: العولمة، والمؤسسات، والنمو الاقتصادي».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»