كنت - ومازلت إلى حد ما- أؤمن أنه ليس من الحكمة أن نحزن على أي شيء ينكسر بين أيدينا، وذلك لأنه أصلا قابل للكسر، وهذا الإيمان جعلني أتجاوز كثيرا مخالب الجروح، وأستعيد عافيتي بعد كل موت بسرعة مذهلة!

Ad

لا شك أننا مسؤولون عما ينكسر منا بسبب إهمالنا وتقصيرنا، أما ما ينكسر منا رغم حرصنا فهو ما لا يستحق الندم.

اليوم فقط عرفت -نظريا- أن ذلك لا ينجح دائما، وليس صحيحا أننا يجب ألّا نحزن على كل ما ينكسر في حياتنا، فهناك أشياء محددة لا نملك إلاّ أن نحزن كثيرا لأنها انكسرت!

هذه الأشياء تتمثل ببساطة في كل ما ندّخره ليوم لم يأت بعد، لكننا نعلم يقينا أنه

سيأتي!

بغض النظر عن طبيعة هذه الأشياء وماهيتها، فإنها الوحيدة بنظري التي تجعل البكاء على خسارتها مباحاً ومشروعاً، وهي فقط التي تترك في مكان ما من القلب جروحاً يصعب إخفاؤها.

أي شيء ندّخره ونفقده قبل أوانه يفطر قلوبنا، ليس فقط بسبب خسارته بذاته، ولكن أيضا بسبب العمر الذي أنفقناه من أجل الاحتفاظ به لحين وقت الحاجة، ثم نفقده قبل أن يأتي ذلك الوقت.

الأشخاص مثل أي شيء آخر، بعضهم يصلح للاستهلاك اليومي، والبعض مثل المناديل الورقية صالح للاستهلاك مرة واحدة فقط، والبعض الآخر للادخار، وهناك من لا يصلح لأي مما سبق!

من بين كل هؤلاء، الذين يستحقون الحزن لخسارتهم هم أولئك الذين نعتبرهم ادّخار العمر.

هؤلاء فقط من يجب أن نعتبر خسارتهم موجعة، وهؤلاء الذين عند فقدهم يتبعثر القلب أشلاء على رصيف الوحدة، ونفقد الأمان.

نشعر وكأنما مُتنا قبل الأوان، أو أننا سنبدأ رحلة الشقاء بحثا عن ذواتنا من جديد، موشومين بتجربة حياتية بائسة لن تسعفنا كثيرا.

هؤلاء الذين لا نحتاج إليهم آنيا، ولا نستنزفهم بشكل مستمر، وإنما نوفرهم لأكثر لحظاتنا حلكة، وأكثر أيامنا عسراً.

هؤلاء الذين يجعلون حياتنا أكثر أمنا، وعاطفتنا أكثر استقرارا، ويشكلون نوافذ الأمل التي نعرف يقينا أنها ستبقى مفتوحة حين تُقفل كل الأبواب في وجوهنا.

إنهم من يمنعوننا من التحول إلى ديناميت قابل للانفجار في أي لحظة،

نعرف أننا نوفرهم لغاية كبرى، قد لا نعرف ما هي تحديدا، ولا متى ستكون، إلا أننا نعرف تماما أنهم سيكونون ملجأنا الآمن حينها، وأنهم دفئنا المشتهى!

هؤلاء الذين لا نجد إلّا أيديهم حين نغرق وليس من ينقذنا.

وهم من يدركون أننا ادّخرناهم لذلك، لذا هم دائما مستعدون لتلك اللحظة القدرية، ولن يترددوا في تأمين ما نحتاجه منهم من حب وقتها.

فإذا كانت الجبال بمنزلة الرواسي والأوتاد للأرض حتى تقيها الانفلات بلا هُدى، فهؤلاء الأشخاص بمنزلة الرواسي لأعمارنا حتى لا تضيع عبثاً، وهم فقط من نطلق عليهم «تحويشة العمر».

هؤلاء فقط من نحزن إذا ما خسرناهم قبل الأوان، أو قبل أن يحين وقت احتياجهم،

وكل ما علينا فعله، هو تحديد هؤلاء الأشخاص في حياتنا، والتشبث بوجودهم فيها بكل ما أوتينا من قوة الحب.

ما عدا هؤلاء فأنا مازلت عند قناعتي المذكورة في بداية المقال!