حين يتحول الإفتاء إلى تجارة سيفقد العلم الشرعي قيمته الحقيقية، وحين يتجاوز الاحتساب الأجهزة الرسمية ستتحول الحياة إلى فوضى، وحين يصبح منبر الجمعة وسيلة إعلامية للتعبير عن أفكار المؤدلجين والمتحزبين، فإننا سنغرق جميعاً في مستنقع الإرهاب الفكري.

Ad

كالعادة... تدخل الرجل الكبير في الوقت المناسب ليضع حداً لفوضى الافتاء والاحتساب وتصفية الحسابات الأيديولوجية على منبر الجمعة، لقد اشتهر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بالصبر والحكمة في معالجة الأمور، ثم التدخل الحازم حين تخرج الأمور عن سياقها المعقول انطلاقاً من واجباته الشرعية كولي للأمر ومسؤولياته كقائد.

وإذا كان تركيز وسائل الإعلام قد انصبّ على ما يسمى بـ»الفتاوى الشاذة» بعد أن أصبح الإفتاء تجارة رابحة ووسيلة للشهرة، لدرجة أن الدعاة أصبحوا يتسابقون على القنوات التلفزيونية وشركات الاتصالات، بينما تفرغ قسم آخر منهم للتشويش على المجتمع من خلال مواقع الإنترنت على نحو أضر بصورة العلم الشرعي وفتن الناس في دينهم، فإن ما حمله البيان الملكي هو أبعد من ذلك بكثير حيث تضمن خطوات واضحة لتنظيم العديد من الأمور المتعلقة بالجوانب الشرعية.

فالبيان يتحدث بصراحة عن محاولة البعض الخروج عن كل الأطر القانونية تحت شعار الاحتساب، فهذه الفئة التي أصبحت تزايد على أجهزة الحسبة الرسمية وأصبحت تعمل علناً على إنكار ما تعتبره منكراً بيدها، تسعى إلى إشاعة الفوضى في المجتمع وتهميش جميع الأجهزة الشرعية وتحريك المجتمع وفقاً لرؤيتها الضيقة وفهمها المنغلق للإسلام، بل إن الكثير من نجوم الاحتساب الفوضوي اليوم أصبحوا يبحثون عن أمجاد شخصية على حساب النظام العام وسيادة القانون والحقوق الشخصية للناس.

ويكفي أن نتذكر ما حدث في معرض الرياض للكتاب العام الماضي -الذي أعتبره أهم المعارض العربية رغم عمره القصير- إذ لم يكتفِ البعض بوجود أعضاء «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» داخل المعرض وسعوا إلى إفساد هذه التظاهرة الثقافية بأي وسيلة، فقد اشتعلوا غضباً بسبب الإقبال المكثف من الجنسين على شراء الكتب والنجاح الساحق الذي حققته كتب مؤلفين سعوديين لا يحبونهم، فقاموا بجولات مزعجة تحت شعار الاحتساب وإنكار المنكر، ولم يكن خافياً على أحد أن الغرض الحقيقي من هذه الجولات الفوضوية تشتيت هذا الجمع الكبير وتوجيه ضربة موجعة إلى المعرض، كي يعود الناس إلى شراء الكتب والروايات السعودية من بيروت أو القاهرة!

أما المسألة الأخرى التي تحدث عنها البيان الملكي فهي تتعلق باستغلال منبر الجمعة لتصفية الحسابات الفكرية والأيديولوجية، فمن غير المعقول أن يتحول هذا المنبر إلى وسيلة لشتم الكتاب والمثقفين بل وحتى الدعاة الذين يختلفون مع الخطيب في الرأي، فقد بلغت التجاوزات حداً لا يطاق ووصل الأمر إلى المهاترات الشخصية بين بعض المشايخ على المنبر، وهذا أمر غير مقبول أبداً، وليس ثمة شيء أكثر إيلاماً من أن يكتب صحافي مقالاً في صحيفة أو يدلي مسؤول بتصريح معين ثم يذهب مع أولاده إلى صلاة الجمعة، فيجد الخطيب يهاجمه بالاسم ويحرِّض عليه الناس!

حين يتحول الإفتاء إلى تجارة سيفقد العلم الشرعي قيمته الحقيقية، وحين يتجاوز الاحتساب الأجهزة الرسمية ستتحول الحياة إلى فوضى، وحين يصبح منبر الجمعة وسيلة إعلامية للتعبير عن أفكار المؤدلجين والمتحزبين، فإننا سنغرق جميعاً في مستنقع الإرهاب الفكري... فشكراً «أبا متعب»... هكذا عهدناك والداً حكيماً وقائداً حازماً لا يقبل الخطأ!

* كاتب سعودي