منطقة البحر الأبيض المتوسط والاختبار العسير

نشر في 01-02-2011
آخر تحديث 01-02-2011 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت في نظر أغلب الأوروبيين، تشكل منطقة البحر الأبيض المتوسط موضوعاً سنوياً للحنين، عطلة للقصائد الملحمية، حيث يمضون أفضل أسابيع العام، ولكن هذه النظرة المتفائلة للمنطقة من قِبَل العديد من الأوروبيين انتهت إلى تراكم سحب التشاؤم المنخفضة.

ففي الاتحاد الأوروبي، تحول المصطلح القبيح «PIGS» (البرتغال، إيطاليا، أيرلندا، اليونان، وإسبانيا) إلى أسلوب مبتذل للإشارة إلى البلدان التي هددت استقرار اليورو وتجبر بلدان شمال أوروبا على تكبد تكاليف عمليات إنقاذ باهظة. قبل فترة ليست بالبعيدة كان الحديث عن التفاؤل والتضامن هو الأمر السائد، والآن باتت القاعدة الجديدة هي الكآبة والمواجهة، والأدهى من ذلك أن أزمة الديون والثقة في أوروبا تحولت أيضاً إلى واحدة من أخطر الأزمات السياسية التي يواجهها الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه: فقد بات مستقبل المشروع الأوروبي ذاته على المحك الآن.

والآن وصلت الأزمة إلى الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، في هيئة ثورة في تونس ومواجهة سياسية في لبنان كادت تعيد البلاد مرة أخرى إلى حافة الحرب والكارثة. ومع تعثر بلدان الاتحاد الأوروبي الواقعة على البحر الأبيض المتوسط في ذات الوقت، فإن تغيرات كبرى باتت وشيكة في الجيرة الجنوبية لأوروبا.

لذا فقد آن الأوان للتفكير في منطقة البحر الأبيض المتوسط من الناحية الجغرافية السياسية، وليس من الناحية المالية فحسب، إذ إن ما يواجهه الاتحاد الأوروبي في منطقة البحر الأبيض المتوسط ليس مشكلة عملة في الأساس؛ بل إنها مشكلة استراتيجية في المقام الأول والأخير، وهي المشكلة التي تتطلب الحلول بشكل ملح وعاجل.

إن الإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي كانت بمنزلة الثورة الشعبية العفوية الديمقراطية الأولى من نوعها في العالم العربي، وقد أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن قمع المعلومات وحرية التعبير على أيدي الحكومات الفردية لم يعد ممكناً في عالم القنوات الفضائية والإنترنت.

ويضاف إلى هذا حقيقة مفادها أن الأنظمة الحاكمة القومية في العالم العربي، التي تكلست وتجمدت فتحولت إلى نظم استبدادية، خسرت شرعيتها الشعبية منذ زمن بعيد. والآن لم يعد «الخيار الصيني»- الحقوق الاقتصادية والازدهار في مقابل الإذعان من قِبَل الشعب- ممكنا، وذلك بسبب عجز هذه الأنظمة والفساد الذي استشرى في بدنها. ونتيجة لهذا فإن عجز هذه الأنظمة عن الإصلاح، إلى جانب النمو السريع للشريحة السكانية من الشباب، يضع هذه الأنظمة تحت ضغوط هائلة، ويخلق إمكانية تفجر التغيير.

الواقع أنه من المستحيل أن نتوقع في الوقت الحالي ما إذا كان العالم العربي سوف يشهد تطورات أشبه بما حدث في أوروبا الشرقية بعد سقوط الستار الحديدي، ففي أوروبا الشرقية، ومع انحسار الهيمنة السوفياتية ثم تلاشيها في نهاية المطاف، كانت بوابات السد مفتوحة، وانطلق سيل من التغيير ليكتسح المنطقة.

أما في الشرق الأوسط ومنطقة المغرب العربي، فإن هذا العامل الخارجي مفقود؛ وهذا يعني أن التغيير الديمقراطي لابد أن يأتي من داخل هذه المجتمعات، ولقد أظهرت تونس أن كل الحكومات التي فقدت شرعيتها ولا تدعمها إلا بالحراب لم يعد بالإمكان أن تستمر في الأمد البعيد.

وسواء تحولت تونس إلى قصة نجاح ديمقراطية واقتصادية واجتماعية، أو انتهت ثورتها بدلاً من ذلك إلى الفوضى والحرب الأهلية ثم نشوء نظام استبدادي جديد، فإن ذلك سوف يخلف عواقب تمتد إلى ما وراء حدود البلاد، ولا شك أن أوروبا، باعتبارها الجارة الشمالية لتونس، سوف تتأثر بشكل مباشر في أي من الحالين، لذا، يتعين عليها أن تساهم بجدية في دعم الديمقراطية وإعانة البلاد على تحقيق التقدم الاقتصادي. وأياً كانت الأخطاء التي ارتكبتها أوروبا في التعامل مع الأنظمة الاستبدادية في المنطقة في الماضي، فبوسعها الآن أن تصحح هذه الأخطاء من خلال تقديم المساعدة الحاسمة.

والواقع أن تونس تمثل اختباراً قاسياً لشراكة الاتحاد الأوروبي ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، وهي السياسة التي روج لها الكثيرون والتي لا تتألف حتى الآن إلا مما يزيد قليلاً على عبارات جوفاء. إن ثورة تونس تشكل فرصة تاريخية فريدة، ولا يملك الاتحاد الأوروبي أن يتجاهل ما تشتمل عليه نتائجها من مخاطر، ويتعين على المسؤولين الأوروبيين في بروكسل وحكومات الاتحاد الأوروبي الرئيسة ألا تتبنى في هذا الصدد تدابير سياسية واقتصادية هزيلة.

بوجه خاص، وبعيداً عن المساعدة المباشرة لتونس في هذه اللحظة الحرجة، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن ينفث حياة جديدة في شراكة البحر الأبيض المتوسط، وسوف تشكل مشاريع التعاون الاستراتيجي في مجال الطاقة- ولنقل على سبيل المثال إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في منطقة الصحراء الغربية لبيعها لأوروبا- أهمية بالغة وقيمة عظيمة بنحو خاص.

ويتعين على الاتحاد الأوروبي وبلدانه الأعضاء- خاصة إسبانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا- أن يجعل من هذا الشكل الجديد من أشكال إنتاج الطاقة والتعاون المشروع الرئيس للشراكة مع منطقة البحر الأبيض المتوسط، ولابد أن يضمن توفير الظروف السياسية الضرورية لتحقيق هذه التوقعات بسرعة. وهذا من شأنه أن يخلق توقعات جديدة لبلدان الجوار الجنوبي للاتحاد الأوروبي، وبالتالي يعطي عملية التحول زخماً اقتصادياً وتكنولوجيا.

فضلاً عن ذلك، فإن مثل هذه المشاريع من شأنها أن تعزز من أواصر التعاون بين البلدان في الجوار الجنوبي للاتحاد الأوروبي، وهو ما يحمل في طياته إمكانية تعزيز الاستثمار في التعليم والبنية الأساسية والتنمية الصناعية، وهذا من شأنه بالتالي أن يوفر الأمر الأكثر أهمية الذي تحتاج إليه هذه الدول وشرائحها السكانية من الشباب لجلب الاستقرار في إطار من التنمية الديمقراطية: ألا وهو الأمل في تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

إذا استمر الأوروبيون في النظر إلى الداخل، فسمحوا بذلك للمحاسبين الماليين بفرض هيمنتهم على مناقشة مستقبل أوروبا، فإن هذا يعني إهدار فرصة تاريخية؛ وهي الفرصة التي سوف تؤثر بشكل مباشر في أمن أوروبا، وإذا حدث ذلك فإن التكاليف في المستقبل سوف تكون أعلى كثيراً من المدخرات التي قد نوفرها اليوم.

* يوشكا فيشر كان وزيراً لخارجية ألمانيا ونائباً لمستشارها في أثناء الفترة 1998-2005، وكان أحد زعماء حزب الخُضر الألماني البارزين لفترة تقرب من العشرين عاما.

«بروجيكت سنديكيت»، معهد العلوم الإنسانية، بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top