تريد الكذب البارد الذي يسرسح على جوفك ويخدّر دماغك ويطبطب على أكتافك أم لديك القدرة على تحمل الصدق الذي يلسعك ويصفعك ويسفعك بالناصية... تعال إلى ميدان الصدق، وتعال لنتحدث عن الفرق بين عادات الشعوب المتعلمة وطباعها ونقارنها بعادات الشعوب غير المتعلمة وطباعها. وعندما أقول «متعلم» أو «متعلمة» فأنا أتحدث عن الفرد في الشعوب المتعلمة، وعندما أقول «غير المتعلم» فأنا أتحدث عن الفرد في الشعوب غير المتعلمة، حتى لو كان يحمل شهادة الدكتوراه. وطبعاً لا حاجة لي إلى التذكير بأنني أتحدث عن الغالبية لا الكل.

Ad

وسيلفتك في الشعوب غير المتعلمة المبالغة في الحزن والكرم، ويموت ميّتهم الذي لا يعادل حبة خردل، فتندب الندابات، وينثرن التراب على وجوههن، ويرتفع صراخهن، وتقوم قيامتهن... ويموت المتعلم فيكتفي أهله وأصدقاؤه بالحزن والإطراق والصمت ووضع الورود على القبر، فللموت هيبة عندهم وجلال.

وإذا زرت صديقاً من الشعوب غير المتعلمة، فيا ويلك ويا سواد ليلك إن كنت مستعجلاً أو على سفر، سيقسم عليك بأغلظ الأيمان وأمتن العبارات أن تأكل عنده ذبيحة، كبشاً أو تيساً أو ديكاً رومياً أو غيرها من البهائم التي تعتمدها بيئته رمزاً للكرم وحسن الضيافة، وسيدعو الجيران والأقارب، وستشعر لوهلة بينهم أنك أبو زيد الهلالي، وفي أضعف الأحوال أنت دياب بن غانم، أما إذا زرت متعلماً تربى في بيئة متعلمة، فسيخيّرك: «ماذا تشرب؟» أو «سأصحبك إلى مطعم فاخر إن كان لديك الوقت»، هكذا ببساطة، فإذا كنت غشيماً مثلي، وأجبته: «كثّر الله خيرك... لست جائعاً»، فسيصدقك فتجوع فتموت.

وفي الشعوب غير المتعلمة، سيفاخر أحدهم: «أنا أكرمُ ضيفي حتى لو لم أكن أملك مال الضيافة، سأستدين لإكرامه، وسأقتّر على أولادي من أجله»، وهو يرى ذلك غاية الفخر وسنام المجد، في حين تعتبر الشعوب المتعلمة هذا المسلك تهوراً وعدم حصافة.

ويحدثني صديق: كنا في أميركا، والتقينا صدفة مع مجموعة من المعارف، واتفقنا على تناول الغداء معاً، وجاءتنا الفاتورة، فتناهبناها كعادتنا، كلّ يقول أقسم أن أدفعها أنا، وعلا صوتنا، وانطلقت أيمان الطلاق، ونهض بعضنا لينتزع الفاتورة من يد الممسك بها، فجاء إلينا أميركي طاعن في السن، تبين لنا لاحقاً أنه صاحب المطعم، وقد تحول وجهه إلى اللون الأحمر الفاقع، وهمس بأدب وهو يحاول إخفاء غضبه: «ما المشكلة أيها السادة؟»، فأجبناه ضاحكين: «لا شيء»، فأصرّ: «أنا رأيتكم وسمعتكم تصرخون، هل لديكم مشكلة مع أسعار المطعم؟»! يقول صاحبي: «تمنيت لحظتذاك أن تنشق الأرض لتبتلعني، فالأميركي الأحمر لا يعرف طريقتنا في المبالغة»، ويضيف صديقي: «شرحنا له الموضوع قبل أن نغادر المطعم ونتركه وهو يضع يديه على وسطه ويتبعنا بنظرات من يفكر في إغلاق المطعم أو بيعه، ولا أظنه فهم شيئاً مما قلناه... حتى هذه اللحظة».

وتستمر المبالغة حتى لو على المستوى السياسي، فلحكّام الشعوب غير المتعلمة صلاحيات وسلطات مبالغ فيها، وبإمكان الحاكم تقسيم أراضي الدولة، هذه أقضي فيها الصيف، وتلك للشتاء، وهذه الأرض لأخي، وتلك لابني، ووو، وهذا من حقه، كما تعتقد تلك الشعوب، وكلما قسا على الشعب اعتبروه مهيباً، في حين لو تجرأ حاكم شعب متعلم على التفكير، مجرد التفكير، بمثل هذا، لعلقوه من أذنه اليسرى على مدخل المدينة، وربطوه بالحبال، وضربوه بالنعال... وللزوج غير المتعلم صلاحيات وسلطات على زوجته مبالغ فيها، وهو يفخر بذلك، وهي تفخر أيضاً، وللأب على أبنائه صلاحيات مبالغ فيها، ويفخر ويفخرون، ولرجل الدين سلطات مبالغ فيها، وثروات مبالغ فيها، ومكانة اجتماعية مبالغ فيها، فهو يقبض أموال الزكاة والخمس والنذور ووو، ويحدد ملامح حياة البشر، ويتدخل في تفاصيل الناس، فيقمع ويقطع ويقلع كما يشتهي، أما عند المتعلمين، فهو رجل دين، بس، هكذا...

أما الصدق، فيا ويلاه على الصدق، خصوصاً عند النساء، بل تحديداً عند النساء... تسأل الصبية غير المتعلمة: «ملامحك تغيرت، هل أجريتِ عمليات تجميل؟»، فتقسم لك بشعرها الذي للتو قصّته، أنها لم تجرِ ولا عملية، وتسأل المتعلمة فتنساب وتترقرق بوضوح: «آه، نعم، أجريت أربع عمليات تجميل، واحدة هنا وأخرى هنا...».

وكي لا تتحول المقالة إلى معلقة سأتوقف هنا على أن أستكمل لاحقاً، وأتمنى أن يحتفظ كل غاضب بغضبه إلى أن أُنهي هذه السلسلة.