ليس سهلاً أن يضع أي كاتب روائي نفسه أمام تحد مهلك لكتابة عمل روائي جديد، يستطيع من خلاله تجاوز أعماله السابقة فنياً، وإضافة رصيد إبداعي مقنع إلى مسيرته الروائية، وأخيراً، كسب قارئ جديد، يأخذه معه إلى أعماله اللاحقة، وربما يحفّزه على البحث عن أعماله السابقة. ويبدو هذا الرأي متحققاً حين الحديث عن الروائية عالية ممدوح، فهي مسكونة بهاجس تجاوز ذاتها إبداعياً، وفي سبيل ذلك، لا تتوانى عن الدخول في رهان دائم لكتابة عمل روائي لا يشبه إلا نفسه. مما يجعلها مخلصة لجهد دؤوب لتحصيل مزيد من المعرفة الفكرية والإبداعية والفنية والإنسانية. لتكون عوناً وأداة لها في خوض غمار مغامرة جديدة، لكتابة عمل روائي جديد.
صدر لعالية ممدوح مجموعتان قصصيتان، وخمس روايات: «ليلى والذئب» 1981، «حبات النفتالين» 1986، «الولع» 1995، «المحبوبات» 2003، «التشهي» 2007، وتأتي رواية «غرام براغماتي» الصادرة عن دار الساقي بطبعتها الأولى في أواخر عام 2010، لتشكل إضافة محسوبة وواضحة على منحنى أعمالها الروائي، وبما يؤكد حضورها الإبداعي العربي المتجدد.«نحن لم نضع أية علامة على وجودنا إلا هذه المخطوطة» ص219، تخلص رواية «غرام براغماتي»، إلى أن حالة الحب الراعشة هي لحظة هاربة وزائلة في عمر أي محبوبين، وأن الكتابة/ الرواية/ الفن، قد تكون وحدها القادرة على حفظ هذه الحالة بزهوها ووهجها من الوله بالآخر وتذكره والشوق إلى عالمه. لذا تأخذ عالية ممدوح قارئها إلى مغامرة حب خاص، بين منشدة نصف عراقية تعيش في باريس «راوية»، ومصور نصف عراقي يعيش بين بريطانيا وسويسرا «بحر»، ولا تخفى على القارئ دلالة الأسماء، ودلالة كل نصف صافٍ للالتقاء بالنصف الآخر. في رصدها لرحلة حب راوية وبحر، التي تبدأ في مدينة برايتون ليلة «الخامس من تموز عام 2005، وتنتهي في شهر يناير 2007، تقدم عالية ممدوح عالماً مليئاً بالدلالات الإنسانية. فهي تقرن بين تقادم وتقشر حوائط شقة «راوية» وحاجتها إلى الإصلاح والتجديد، وبين تقشر ووجع قلبها بعشاقها السابقين، وحاجتها إلى تنفس هواء حب يأخذها إلى عوالم مغوية. وكم كان موحياً ورائقاً ربط المؤلفة، بين قصص حب راوية لعشاقها السابقين، وبين ملابسها في خزانة ثيابها. فقلب كل إنسان هو خزانته السرية لمحباته وخيباته، وكم تنغلق قلوبنا على محبات لم يبق منها إلا نُدب تلوح بين لحظة وأخرى؟تكتب عالية ممدوح فصول روايتها بلغة إنسانية مغرقة في صدقها، صادمة في جراءتها، وتسميتها للأشياء بأسمائها وعريها الجارح، بعيداً عن مجمّلات لغوية تستند إلى إرث بالٍ بضرورة تقديم لغة أدبية تليق بالتكلف أكثر من لياقتها وانتسابها إلى الإبداع. وهي تعنون كل فصل بعنوان منفصل، وتأتي مادة معظم هذه الفصول بصيغة ضمير المتكلم، مرة على لسان راوية ومرة على لسان بحر. راوية في اختبائها في شقتها الباريسية، واستماعها واستمتاعها بمناجات ورجاءات وانكسارات وفورات غضب بحر، في اتصالاته التلفونية، وبوحها الحميم مع نفسها وجدران شقتها. وبحر في ضياعه وهيامه واعترافاته وكتاباته، التي لا يدري كيف يلضمها لتكون لسان حاله لدى راوية.رواية «غرام براغماتي»، في مستواها الظاهري تقدم علاقة حب ووصل بين رجل وامرأة، لكنها في مستويات أخرى تقدم بوحاً ملتاعاً من امرأة ورجل حول الوحدة والغربة والانشطار والحنين، وحالة شوق وضياع العراقيين في المنفى، لوطن تطاردهم خيالاته، وما عاد موجوداً إلا في الذاكرة. إن قراءة رواية «غرام براغماتي» تكشف عن حالة بحث كبيرة دخلت فيها المؤلفة أثناء كتابتها لروايتها، فالرواية تعج بعوالم من البوح حول الجسد والحب والوحدة والتحبب والغربة والفراق والوجع والشوق إلى الوطن، وكل هذا يأتي بلغة شعرية نزقة ومترابطة. وإذا كانت عالية ممدوح قد نجحت بشكل لافت في تقديم بطلة عملها، فإن الرواية تنثر هنا أو هناك أجزاء من السيرة الذاتية الحقيقية لعالية، خصوصا عيشها في باريس، وسردها لعوالم أقرب ما تكون شبهاً بعالم معيشتها الخاصة.«غرام براغماتي» رواية حب صعب التحقق بين رجل وامرأة، ومحاولة لاصطياد لحظة زمن لا يأتي. وهي إلى ذلك رواية تعيد بناء الحياة من تفاصيل لحظات صغيرة. وهل مأزق الحياة الأكبر سوى استحالة قدرتنا على الإمساك بلحظات عمرنا الزائلة؟
توابل - ثقافات
غرام براغماتي
11-01-2011