كاتبةٌ ممن أعرفُ تحدثتْ معي بسريةٍ عن مشاعرها المحبطة، بعد أنْ دخلتْ مرحلةَ الكهولة مباشرة، بعد الخمسين من العمر تبدو نُذر الإحباط رمادية، وبعد الستين تغدو سوداءَ، معتمة، القلبُ يفقد الطريقَ إلى الحب تماماً. ويتبلّدُ أمام المدهش، وإذا ما ضاقت النفسُ، فما من قدرةٍ على البكاء. كانت الكتابةُ نتاجَ القلب الذي كان، فأيّ نتاجٍ يمكن أن يعطيكَ القلبُ الذي أصبح؟
ولأن الظاهرة أكثر من عامة بين النساء اللواتي يملكن موهبةَ الكتابة، والفنّ عموماً، فلمْ آخذ الإجابة من تلابيبها، وأُلقيها في وجه السيدة الكاتبة، لمعرفتي بأن الإجابة لا بد تنطوي على شيء من إدانة.قلت لها بأنّ كلَّ معاناةِ السنوات المتأخرة لديها ليستْ إلا نتاجَ وهم، أصبح مع السنواتِ أصلبَ وجوداً من الحقيقة. فهي، شأن كلّ كاتبٍ وفنان، سعتْ إلى الإبداع الخيالي طمعاً في إثبات الهوية الإنسانية، وهذا سعيٌ حق. ولكن هذا السعي قادها إلى الطمع بالشهرة، شأنَ أكثرِ الكتّاب والفنانين العرب، فبيّتَ لها من حيثُ لا تعرف آفةً في داخلها. ومشاعرُ الخيبة المتأخرة ليست إلا وجهاً من وجوه هذه الآفة، لأن الشهرةَ توفّر مسرات إيهامية، لا يكتشفها العقل، في الكائن غير المحترس، إلا في مرحلة الكهولة والشيخوخة.قلتُ لها إن مشاعرَ الإحباط التي تأكلها كالرحى حالاتٌ إيهامية، لأنها لا تعرفُ، ولا تريدُ أن تعرفَ، أن قدراتِها الطبيعية، التي كانت متألقةً قبل هذه المرحلة، مازالتْ كامنةً على حالها من القوة. ولكنها أخذتْ لون المرحلة التي تنتسب إليها. وهذه القدرة على التلوّن هي واحدة من القدرات المذهلة لدى الكاتب ذي البصيرة. إلا أنها تفتقد القدرة على اكتشاف ذلك، وبالتالي على اكتشاف النفس. إنها تتوهم، شأن كثيرين، بأن مرحلة الشباب التي قد تمتد بيد المذعورين من الكبر، إلى الخمسين والستين، هي وحدها حاملة الصولجان، الزاهية داخل ربيع دائم. إنها ضحية التعلّق بلون واحد من ألوان العمر، لا تريد أن تفارقه.هذه الظاهرةُ صارخةٌ عند فنانات الغناء والسينما. لأنهن منذ تفتّق مواهبهن، تعلّقن بأذيال الشهرة، وليدة افتتان الجماهير. ولذلك حين بلغن تجاعيدَ الكهولة، أدمنَّ اليأس مع المخدّر. ولكن الكاتبةَ غير معذورة إذا ما أصابها عمى الألوان، ورأت العمر لوناً واحداً. وعادة ما تجعله وردياً. مع أن الوردي بعرف الفن ليس اللون الأجمل. إذا ما كان هناك لونٌ أجمل أصلاً.الكاتبةُ ذاتُ البصيرة تعشق ألوان عمرها، التي تتوزعها السنوات. وقد تكتشفُ أن لونَ الكهولةِ والشيخوخةِ لديها أعمقُ الألوان جميعاً. أعمق، ولم أقل أجمل، لأن هذه المرحلة تنفرد بهذه الفضيلة، وما الجمال إلا صفة ملحقة.أدبُنا العربي يبدو لي أحياناً مدرسةً لعمى البصيرة. نزار قباني ظل يغني صدور الفتيات الناهدة، حتى وهو في شيخوخته. أدونيس يغني التمرد والجنون، حتى في سبعينيات عمره. رأيته يتحرّج من ذلك في مجموعة شعرية أخيرة، فيضطر إلى التوق إلى الحكمة ولكن المجنونة! غادة السمان لا تريد أن تغادر، شأن الفنانة صباح، غنجها الفتي القديم. عشرات من الكتاب والشعراء، يشعرون بالحرج من الكتابة الكهلة، والشعر الكهل. حتى صاروا يستخدمون التسمية للشتيمة. وهؤلاء لا بصيرة لهم تقودهم إلى الكنوز الدفينة في لحظات العمر المُسن.الكاتبُ والكاتبةُ يدخلان في شرَكِ العنكبوت منذ مطلع نشاطهما الإبداعي. وفي مرحلة الكهولة تبدو المرأة أظهر منه داخل الماء الراكد، لأنها أسرع للشكوى. والشكوى، رغم سلبيتها، دليلُ إحساس لدى الكاتبة، بأن ما يحدث ليس إلا تراجيديا، يجب المصارحة بشأنها. الكاتب يموت شاباً حتى في آخر شيخوخته. ولكنه شباب يعتمد الخداع والإيهام. والكاتبة تموت شيخةً في شيخوختها. ولكن بمرارة الخائب.أخيراً، قلت لها، وهي تصغي، بأنها اليوم في أعمق مراحل العمر. وحدثتها عن الطبيعة النادرة للحظات الكهولة. تماماً شأن الطبيعة النادرة للحظات الفصول. ومن لم يكتشف سحر لحظات الربيع والصيف سيصعب عليه اكتشاف سحر لحظات الخريف، والشتاء الذي يليه.
توابل - ثقافات
مسرة الخريف الدفينة
28-10-2010