تايلاند بالأصفر والأحمر

نشر في 29-03-2011
آخر تحديث 29-03-2011 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت بعد ثلاثة أعوام متتالية من احتجاجات الشوارع الدامية، وصلت تايلاند إلى النقطة التي سوف تحتاج عندها إلى إجراء انتخابات جديدة، مع انتهاء دور الانعقاد الحالي لجمعيتها الوطنية «البرلمان» في شهر ديسمبر، ولقد أشار رئيس الوزراء ابهيسيت فيجاجيفا إلى أنه سوف يدعو إلى حل مجلس النواب بحلول الأسبوع الأول من شهر مايو، ويأتي هذا في أعقاب طلب برلماني بحجب الثقة عن الحكومة، والذي نجت منه حكومته بصعوبة، وبهذا باتت الساحة ممهدة لإجراء انتخابات عامة بحلول منتصف هذا العام.

ولكن في ضوء المشهد السياسي المتقلب في الأعوام الأخيرة، فإن مظهر الاستقرار والانسجام الدستوري خادع، ذلك أن تايلاند المتأثرة بصدى حركات شعبية في أماكن أخرى من العالم، تظل حبيسة الصراع والاستقطاب بين نظام راسخ يدعم ابهيست وأصوات جديدة متنامية تطالب بالحرية وحقوق المواطنة، والتوصل إلى أي حل سلمي لهذا الصراع سوف يتطلب تنازلات وحلولا وسطا تتسم ببعد النظر.

ويعود تاريخ استخدام سياسة الشارع في تايلاند في أثناء هذه الأزمة السياسية إلى عام 2005، عندما أطاح انقلاب عسكري بحكومة ثاكسين شيناواترا الفاسدة المتعسفة، التي أعيد انتخابها بأغلبية ساحقة في ذلك العام، وبعد عامين، وفي أعقاب فرض النظام العسكري لدستور جديد، تمكن حزب ثاكسين السياسي بالوكالة من الفوز بانتخابات أخرى، وذلك لأن قاعدته الشعبية التي تتألف من أصحاب «القمصان الحمراء» في المناطق الشمالية الشرقية والشمالية ظلت على ولائها له.

وفي عام 2008، نزل خصوم ثاكسين المؤيدون للملكية من ذوي القمصان الصفراء- حزب تحالف الشعب من أجل الديمقراطية- إلى الشوارع للتظاهر ضده مرة أخرى، بعد القرار الذي أصدره القضاء بحل حزبه للمرة الثانية، وفي إبريل من عام 2009، ثم مرة أخرى في شهري إبريل ومايو من عام 2010، عَسكَر أصحاب القمصان الحمراء المحرومون من حقوقهم في شوارع بانكوك للمطالبة بإجراء انتخابات جديدة، ولكن قوات الجيش نجحت في تفريقهم في حملة أسفرت عن مقتل 91 شخصا.

وبالرغم من النكسات التي لحقت بهم وخسارتهم لمصداقيتهم بعد إشعالهم النيران في المنطقة التجارية المركزية في بانكوك، فقد تزايدت أعداد أصحاب القمصان الحمراء، وهم يتظاهرون شهرياً ضد حكومة ابهيسيت، وبعد عامين، عاد أصحاب القمصان الصفراء من حزب تحالف الشعب من أجل الديمقراطية أيضاً إلى الشارع للإعراب عن سخطهم على ابهيسيت.

والآن يدين زعماء حزب تحالف الشعب من أجل الديمقراطية كل الساسة ويعتبرونهم فاسدين يسبحون بحمد النظام الملكي ويمتدحون فضائله، والواقع أن الحركة الملكية المحافظة، باستغلالها لأسلحة الحملة المناهضة للفساد والمشاعر الوطنية المتصاعدة (نتيجة للنزاع الحدودي العنيف مع كمبوديا)، تشير ضمناً إلى حل غير دستوري لحالة الجمود السياسي في تايلاند، ويبدو أن ذلك الحل غير المعلن يتلخص في انقلاب عسكري آخر.

ورغم أن هذه المكائد تتماشى مع مسار الديمقراطية الفوضوي في تايلاند، فإنها تشير إلى انشقاق بنيوي أكثر عمقا، والواقع أن النظام الحالي في تايلاند والذي دام حكمه للبلاد ستة عقود من الزمان، والذي يعتمد على التعايش بين الملكية والمؤسسة العسكرية، غير قادر على تحمل انتخابات تفضي إلى تمكين الحشود الريفية التي أيقظتها من دون قصد فترة تولي ثاكسين لمنصب رئيس الوزراء.

وتشكل هذه الجماهير، إلى جانب الفقراء في المناطق الحضرية، أغلبية أصحاب القمصان الحمراء، وهم يطالبون بأن يكون لهم صوت في المشهد السياسي، وحصة في اقتصاد البلاد الذي يعيبه قدر مروع من التفاوت، وفرصة للترقي المجتمعي، وهي الفرصة التي لاحت لهم في برامج ثاكسين الشعوبية. وهم يدركون أن الساسة المنتخبين مجبولون على الابتزاز والكسب غير المشروع، ولكنهم الآن يرفضون حرمانهم من حقوقهم على هذا النحو السافر، كما يرفضون تشكيل حكومة أشبه بحكومات ابهيسيت، التي يتم اختيار أعضائها في ثكنات الجيش.

وبالنسبة للمحور العسكري السياسي في تايلاند والركائز التي يستند إليها في الجهاز القضائي والبيروقراطي للدولة، فإن قمع هذه الأصوات أصبح مستعصياً على نحو متزايد. والواقع أن تايلاند تسترعي فضلاً عن ذلك اهتماماً غير مرغوب فيما يتصل بقوانينها الأمنية الوحشية المتشددة.

على سبيل المثال، لا تزال بانكوك تعيش في ظل حالة الطوارئ أو أحكام قانون الأمن الداخلي منذ أكثر من عام، وهو ما يُعَد انتهاكاً للحريات المدنية الأساسية، وهناك الآن أعداد غير مسبوقة من السجناء السياسيين، ففي مختلف أرجاء البلاد يتعرض العديد من أصحاب القمصان الحمراء للاضطهاد، هذا فضلاً عن مقتل العديد منهم في ظروف غامضة. كما تم حجب أكثر من مئة ألف صفحة على شبكة الإنترنت بسبب مضمونها «الهدّام». ناهيك عن تزايد الاتهامات بإهانة الذات الملكية، وارتفاع معدل الإدانة بهذه التهمة مقارنة بأي وقت مضى.

ولكن الجهود التي تبذلها المؤسسة الرسمية في البلاد لامتصاص غضب الشارع في تايلاند كانت واهية إلى حد كبير، ويبدو أن مقتضيات الحرب الباردة، التي أفادت ورسخت التحالف بين النظام الملكي والمؤسسة العسكرية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، حلت في محلها الآن ضرورات الديمقراطية. فلم يعد الناخبون سلبيون في مواجهة الفساد المستشري وشراء الأصوات.

ولكن حلول العلل التي تبتلي البلاد الآن لابد أن توجد في إطار من القانون والدستورية، وأي محاولة انقلاب عسكري من شأنها أن تعود بالبلاد إلى الوراء، وأن تحولها من نظام يقف على الطرف البعيد من ساحة الديمقراطية العالمية إلى نظام سلطوي منبوذ،

ولكن هناك سبيل لإحراز تقدم في هذا السياق، وينبغي لنا أن ننسب الفضل في وحدة تايلاند واستقرارها إلى حكم الملك بوميبول أدوليادج (83 عاما) الذي دام 64 عاما، والذي حاصر الشيوعيين وسمح بتمكين النمو الاقتصادي المطرد، في ظل بعض الأخطاء والعيوب بطبيعة الحال، ولكن الزمن تغير، فالأنظمة الراسخة في كل مكان لا يتسنى لها البقاء إلا باستيعاب الطموحات الشعبية، ولا شك أن الإرث الذي خلفه ثاكسين من الفساد واستغلال الشعوبية لابد أن يُرفَض، ولكن صحوة الناخبين التايلنديين العميقة، التي جاءت بمحض المصادفة أثناء فترة ولايته لرئاسة الوزراء، لابد أن يُبنى عليها لا أن تُقمَع.

إن تايلاند في احتياج إلى انتخابات لا يتم تخريبها بقرارات قضائية، وهذا يعني أن الدستور الذي عملت به البلاد أثناء حقبة الانقلابات يحتاج إلى التعديل، ولابد أيضاً من إصلاح قانون إهانة الذات الملكية، الذي يسمح حرفياً لأي شخص بتوجيه الاتهامات إلى أي شخص آخر، وربما كان من الأصلح أن تترك مسألة توجيه مثل هذه الاتهامات للقصر الملكي.

وتطول القائمة، فمن الأهمية بمكان حل الغموض الذي يحيط بمكتب العقارات الملكية، والذي تقدر قيمته بنحو ثلاثين مليار دولار أميركي، كما تحتاج مسألة الخلافة الملكية إلى توضيح، بينما تبحر سفينة الملكية الدستورية التايلاندية عبر المسار المجهول الذي ينتظرها.

والواقع أن هذه القضايا تتسم بالحساسية البالغة، وذلك نظراً لحالة الاستقطاب المسعورة بين أصحاب المصالح الخاصة في استمرار النظام القديم وهؤلاء العازمين على وضع حد لما يزعمون أنه امتيازات واستحقاقات إقطاعية جديدة، وما لم تبد كافة الأطراف رغبتها في بذل المساعي الحميدة من أجل التوصل إلى تسوية فإن تايلاند لن تستعيد مكانتها الطبيعية بين الديمقراطيات الناشئة في مختلف أنحاء العالم.

* ثيتينان بونغسودهيراك ، أستاذ جامعي ومدير معهد الأمن والدراسات الدولية في كلية العلوم السياسية في "جامعة تشولالونغكورن" في بانكوك.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top