ألا تسمعون التاريخ يصرخ بأعلى صوته محذراً: افتحوا مجتمعاتكم إن أردتم علاجاً ناجعاً يطفئ نيران الطائفية، فقد يعمل الانغلاق على تسكين أعراض الطائفية مؤقتاً، لكنه لن يكون أبداً علاجاً جذرياً لأسبابه، فستظل الطائفية تطل برأسها القبيح في كل مرة يهمس فيها أي طائفي مهووس، ليقيم الدنيا ولا يقعدها، أي مجتمع هش ومتداع هذا؟ فلننظر كيف تخلصت أوروبا من هذا الداء الذي مزقها وكاد يهلكها في الزمن الغابر حين كانت غارقة في القاع، لتنطلق بعد ذلك كالصاروخ نحو الحداثة، والسبب هو المجتمع المفتوح، الذي يرى فيلسوف القرن العشرين كارل بوبر أنه بديل المجتمعات المغلقة التي تتأسس على أفكار شمولية غير متصالحة مع قيم الحرية والفردية والتفكير النقدي أهم معايير الحداثة التي تحول المجتمعات البدائية الطفولية إلى مجتمعات راشدة ناضجة.
وقد انتقد بوبر في كتابيه، "بؤس الأيديولوجيا" (ترجمة عبدالحميد صبرة) و"المجتمع المفتوح وأعداؤه" (ترجمة د. السيد نفادي)، الأيديولوجيات التي أسست للمجتمعات المغلقة، كالشيوعية والفاشية والدولة الدينية، والتي أصبحت عدوة للمجتمع المفتوح، ذلك أنها تعتمد على فرض حقيقتها المطلقة في تبرير استبدادها... وقد انتقد بوبر المنهجية غير العلمية لهذه الأفكار الشمولية التي تتعصب لحتمية تاريخية تقدم صورة متكاملة نهائية لتطور المجتمع التاريخي، إذ يقوم على أساس اليقينيات لا الفرضيات القابلة للفحص والتفنيد والاختبار، كما هو الحال في المجتمع المفتوح الذي لا تحدده حتمية نهائية مسبقة، بل يعمل على الحركة الدائمة الدؤوبة، وقوده التفكير النقدي الذي يعلي من شأن القيم الفردية والتسامح كأهم قيم أخلاقية على الإطلاق تتعايش من خلالها كل الأطياف والأعراق والأديان بكرامة وسلام معاً تحت حكم القانون الذي يعاقب الفكر المحرض على الإلغاء والإبادة، لذا فالمجتمع المفتوح هو المجتمع الآمن المستقر المتحرك الذي يتحمل ويمتص كل أنواع الاختلاف، أما المجتمع المنغلق فهو المجتمع الفوضوي الساكن المتضعضع المتزعزع الذي يضعف أي انفعال اجتماعي. الصراع الفكري لا الطائفي هو ظاهرة صحية لا تخلو منها المجتمعات المتحضرة، ولا تعمل على تجنبها، وإلا أصبحت كما يعبر بوبر "مجتمعاً للنمل"، فالصراع الطائفي في المجتمعات البدائية يتحول إلى صراع فكري حين تصل المجتمعات إلى سن أكثر رشداً، فتتلاشى الأفكار الغوغائية المزيفة، وتختفي وتصبح منبوذة حين تقوم على التفكير النقدي الذي يتمكن من "تصحيح الأخطاء قبل التسبب في المزيد من الضرر"، فيصبح المتطرف الشيعي "الحبيب" والمتطرف السني "البذالي" منبوذين من المجتمع، بل إن أحداً لن يسمع بهما أو يكترث لهما... لأن هناك من يرد على مقولاتهما بشكل عقلاني مستنير دون أن يسمح للأحادية السلفية والشيعية أن تسيطر على الساحة، وتتسبب في توتر المجتمع أو اضطرابه. فلنفتح المجتمع بدلاً من أن نغلقه لكي نسكن آلامه بشكل مؤقت... ولننظف القيح الخارج منه، ونطهره بالتفكير النقدي الذي يجب أن يتحول إلى منهج أساسي في المؤسسات التعليمية والإعلامية والبحثية، بعد أن احتكرتها لسنوات أفكار شمولية منغلقة تحالفت معها الحكومة، وكانت عوناً لها، بدلاً من أن تمارس مهمتها الأساسية في حماية حرية المجتمع... لنفتح المجتمع ولندع الهواء والشمس ينقيان الأجواء الفاسدة، فلم يكن الانغلاق يوماً إلا حطباً كلما بدأت شرارة أحد الأطراف المتطرفة زادها اشتعالاً في الطرف المقابل، ليتأجج الدوران الاجتراري في الدائرة المغلقة التي تشغلنا بتصفية الحسابات التاريخية على حساب الإنسان والمواطنة والوطن، ولنا في التاريخ الدموي البعيد والقريب، إذ لا غالب ولا مغلوب، عبر ودروس، ذلك هو الداء العضال الذي يتسبب في ضمور العقل وشل المجتمع وتهديد بقائه.
أخر كلام
افتحوه... لا تغلقوه
21-09-2010