نماذج سياسية جديدة لعالم جديد
على مدى ربع القرن الماضي تمتع الاقتصاد العالمي بفترة ممتدة من النمو المستقر وانخفاض مستويات التضخم، ويبدو أن ما أطلق عليه "الاعتدال العظيم" أغرى العديد من صناع القرار السياسي بالارتكان إلى شعور زائف بالأمان بشأن قدرتهم على إدارة الاقتصاد والتعامل مع الأزمات المالية. ولكن مع تحول الاعتدال العظيم إلى الكساد الأعظم، بدأت العيوب القاتلة في الفكر التقليدي بالظهور إلى الضوء، ومن بين أشد هذه العيوب بروزاً ذلك الذي يتلخص في الكيفية الهزيلة التي تناولنا بها الارتباطات بين النظامين المالي والاقتصاد عموما، وكذلك الارتباطات بين البلدان.واليوم، وفي ظل المساعي التي يبذلها صناع القرار السياسي في محاولة للتوصل إلى نماذج جديدة لإدارة الاقتصاد في عام 2011 وما بعده، فإن الفهم الأفضل لهذه الارتباطات سيشكل ضرورة أساسية لتعزيز النمو الاقتصادي والحد من مخاطر الأزمات، وعلى نفس القدر من الأهمية يتعين علينا أيضاً أن نفهم أن العمل الجماعي من شأنه أن يمكننا من بناء اقتصاد عالمي أكثر نجاحاً واستقرارا، لمصلحة بلدان العالم المختلفة.
واسمحوا لي أن أوضح ماذا يعني هذا بالنسبة لثلاثة أهداف سياسية: بناء قطاع مالي أقوى وأكثر أمانا، وتحقيق نمو أكثر توازناً واستقرارا، وإدارة تدفقات رأسمالية أضخم وأكثر تقلبا.إن النظام المالي الأقوى والأكثر أماناً يُعَد حجر الأساس للاقتصاد الناجح، وهذا يتطلب تنظيمات قوية تعمل وفقاً لدليل إرشادي معقول للمؤسسات والأسواق المالية، ولضمان التزام الأطراف كافة بالقواعد فلا بد من خضوع المؤسسات المالية لإشراف مكثف.والآن، وحتى في ظل الاستعانة بأفضل القواعد وتوظيف أدق الجهات الإشرافية، فإن الأزمات ستحدث لا محالة، وهذا هو السبب الذي يجعلنا في احتياج إلى آليات حل فعالة للتعامل مع المؤسسات التي تقع في المتاعب... أخيراً، وفي ضوء التفاعلات القوية داخل القطاع المالي وعبر الاقتصاد عموما، فإننا في احتياج إلى إطار شامل لإدارة المخاطر في النظام المالي ككل.والواقع أن العديد من الجهود بُذِلَت بالفعل لدفع عجلة الإصلاح التنظيمي، خصوصاً الاتفاقية التي أبرمت أخيراً لتعزيز رؤوس أموال البنوك (بازل 3)، وعلى الرغم من ذلك فإننا بعيدون كل البعد عن الحصول على الإشراف اللازم للتنفيذ اللائق للقواعد، وتظل آليات الحل الفعالة والأطر الشاملة أشد مراوغة وتفلتا.وبالانتقال إلى الاقتصاد الأوسع نطاقاً تعلمنا أن النمو لا بد أن يكون متوازناً حتى يكون صحياً، وعلى المستوى الوطني فإن هذا يتطلب وجود أدوات قادرة على منع التجاوزات التي تقع في أحد القطاعات من إسقاط الاقتصاد بالكامل، وعلى المستوى العالمي فإن الأمر يتطلب توزيعاً أفضل للنمو في البلدان المختلفة، من أجل منع اختلال التوازن الذي قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار.ولكن ما الآثار التي قد تترتب على سياسات الاقتصاد الكلي؟يتعين على السياسة النقدية أن تنظر إلى ما هو أبعد من محور تركيزها الأساسي على مستويات التضخم المنخفض المستقرة، والسؤال الآن هو: كيف نستطيع على وجه التحديد تحليل هذا الشرط الأساسي ودمجه في السياسة النقدية، وكيف ننسق عمل السلطات النقدية والتنظيمية.وفي ما يتصل بالسياسة المالية، فقد أظهرت الأزمة قيمة انخفاض الديون العامة والعجز في أثناء أوقات الرواج: فالبلدان التي تتمتع بتمويل عام أكثر صحة تحظى بمساحة أكبر من المناورة لتخفيف التأثيرات الاقتصادية المترتبة على الأزمات، ولكن أزمة الكساد الأعظم الحالية كانت سبباً في ارتفاع الدين العام والعجز في العديد من البلدان المتقدمة إلى عنان السماء. ولكن السرعة الواجبة لإطلاق تدابير التقشف المالي- والتوازن الصحيح بين زيادة الضرائب وخفض الإنفاق- ستختلف من بلد إلى بلد، بما يعكس عوامل مثل قوة التعافي الاقتصادي، وشهية السوق إلى الدين، والإنفاق الأولي ونسب العائد، ولكن الهدف المشترك للسياسة المالية لا بد أن يتلخص في دعم النمو المتوسط الأجل، وخلق فرص العمل.وتُعَد مسألة توزيع الدخل قضية أخرى مهمة، ففي الأعوام التي سبقت الأزمة، اتسعت فجوة التفاوت في العديد من البلدان، هذا إلى جانب العواقب المقلقة التي قد تؤثر في التماسك الاجتماعي، وربما أدى اتساع فجوة التفاوت أيضاً إلى زيادة التعرض للأزمات: فمع تضاؤل عدد الأشخاص القادرين على السحب من مدخراتهم في أثناء أوقات الركود، يصبح التأثير في النمو أشد خطورة.وإذا ما تطرقنا إلى البعد الدولي فإن الفهم الأفضل للكيفية التي قد تمتد بها السياسات التي تتبناها إحدى الدول إلى بلدان أخرى يشكل أهمية أساسية، وهذا التوجه يكمن في قلب الجهود التي تبذلها مجموعة العشرين لضمان نمو عالمي أقوى وأكثر استقراراً. كما يعمل صندوق النقد الدولي أيضاً على تصعيد عمله في هذا المجال، من خلال "التقارير الممتدة" عن الصين، ومنطقة اليورو، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة.ويشكل اكتساب فهم أفضل للارتباطات المالية بين البلدان أهمية بالغة أيضا، ففي أثناء الأزمة، رأينا السرعة التي فرت بها رؤوس الأموال من البلدان التي كانت تُعَد فيما سبق رهاناً آمنا، واليوم تعاني العديد من هذه البلدان موجات مد عاتية من هذه الأموال العائدة.ويخشى صناع القرار السياسي في العديد من الأسواق الناشئة أن تؤدي تدفقات رأس المال داخل بلدانهم إلى دفع قيمة العملات المحلية إلى الارتفاع، وزعزعة استقرار الأسواق المالية، وتغذية فرط النشاط الاقتصادي، وتتراوح ردود أفعالهم بين شراء النقود الأجنبية للحيلولة دون ارتفاع قيمة العملة، إلى فرض ضوابط رأس المال، وفي بعض الحالات القصوى منع المال من الخروج نهائياً، ولقد أصبح الموقف متوتراً للغاية في ضوء الأحاديث عن "حروب العملة" والخطر الحقيقي المتمثل في فرض تدابير الحماية المالية.ومن الواضح أننا في احتياج إلى معالجة أفضل للأسباب التي تدفع تدفقات رأس المال إلى الداخل، كما يتعين علينا أيضاً أن نحدد أفضل السياسات في التعامل مع هذه الأسباب، مع الوضع في الحسبان تأثير هذه السياسات في الاقتصاد العالمي ككل، وينبغي لنا أن نستكشف ما إذا كان نظام القواعد العالمية الذي يهدف إلى الحد من تقلب تدفقات رأس المال قد يفيد.ويشكل التأمين المالي العالمي قضية ذات صلة وثيقة بهذا الأمر، فكما تعمل أي أسرة تماماً على حماية مدخراتها بالتأمين عليها، ينبغي للبلدان أن تكون قادرة على الاستفادة من شبكة أمان مالية عالمية، ولقد تحقق الكثير في هذا السياق بالفعل منذ اندلاع الأزمة، من خلال توفير المزيد من الموارد لصندوق النقد الدولي وأدوات التمويل الجديدة، ولكن الأمر يحتاج إلى المزيد، والآن يعكف صندوق النقد الدولي على استكشاف سبل التعاون مع آليات التمويل الإقليمية، فضلاً عن ابتكار سبل جديدة لاستخدام أدواته في الأزمات الشاملة.واسمحوا لي أن أربط بين كل ما سبق.من بين المظاهر الرئيسة لفشل السياسات في الفترة التي سبقت الأزمة كان الافتقار إلى الخيار: فقد فشلنا في تقدير مدى التعقيد الذي بلغه الاقتصاد العالمي والشبكة المالية العالمية، ويتعين علينا أن نحرص على ألا يكون إخفاقنا المقبل ناتجاً عن الافتقار إلى التعاون، كما ينبغي لنا أن نتواصل عبر خطوط التقسيم- سواء داخل اقتصاد كل بلد على حِدة أو فيما بين البلدان- وأن نعمل معاً على بناء اقتصاد عالمي أقوى وأكثر مرونة وقدرة على الصمود."بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"