في ليلة رأس السنة، جلس الكاتب الكبير أمام مكتبه، وأمسك بقلمه، وكتب:

Ad

"في العام الماضي، أجريت عملية إزالة للمرارة ولازمت الفراش عدة شهور، وبلغت الستين من عمري وتركت وظيفتي في دار النشر الكبرى التي عملت بها لأكثر من ثلاثين عاماً، وتوفي والدي، ورسب ابني في بكالوريوس كلية الطب لتوقفه عن الدراسة لشهور عدة بسبب إصابته في حادث سيارة... يا له من عام سيئ!".

بعد قليل، دخلت زوجته غرفة مكتبه، ولاحظت شروده، فاقتربت منه وقرأت ما كتب، فتركت الغرفة بهدوء، وبعد دقائق، عادت وقد أمسكت بيدها ورقة أخرى وضعتها بهدوء بجوار الورقة التي سبق أن كتبها زوجها، فتناول الزوج ورقة زوجته وقرأها:

"في السنة الماضية، شفيت من آلام المرارة التي عذبتك سنوات طويلة، وبلغت الستين وأنت في تمام الصحة والعافية، وعاش والدك حتى بلغ الخامسة والثمانين وتوفي في هدوء بغير أن يتألم، ونجا ابنك من الموت بأعجوبة في حادث السيارة وشفي بغير عاهات أو مضاعفات... يا لها من سنة جميلة تغلب فيها حظك الحسن على حظك السيئ"!

هذه الحكاية المنشورة في عدد من مواقع الإنترنت توضح لنا بجلاء الفارق بين اثنين يرى كل منهما الأحداث وتأثيرها بشكل مختلف عن صاحبه، فالكاتب لا يرى سوى نصف الكوب الفارغ، ولذلك، اعتبر عامه مليئا بالمآسي والمصائب والأحزان، وفي ذلك مبالغة كبيرة منه، فيما زوجته لا ترى سوى نصف الكوب الممتلئ، ولذلك، تهون ما مر به زوجها وترى فيه الجمال والحظ الحسن، وفي ذلك مبالغة كبيرة منها أيضا!

نحن في الكويت، منذ أربع أو خمس أعوام، وبعد أن زاد عدد الصحف وتحولت قنواتنا الفضائية إلى قنوات سياسية بالدرجة الأولى، وكثر بيننا المنظرون السياسيون حتى تجاوزوا عدد المواطنين، صرنا كذلك الكاتب لا نرى سوى السواد في حاضر وطننا ومستقبله، واقتصرت أحاديثنا ليل نهار على السلبيات فيه، حتى ليظن من لا يقطن في هذا البلد أننا نعيش في فوضى وفساد لا مثيل له في العالم بأسره!

باسم النقد والرغبة في الإصلاح أصبحنا نهول كل شيء، ونعمل من الحبة قبة، وصار أي تصرف فردي لشخص ما، يمثل جماعة من الناس وتهديدا لجماعة أخرى، مثلا، يخرج نكرة لا مكان له من الإعراب في برنامج تلفزيوني ليصنف المواطنين على مزاجه فنرى في ذلك خطرا على الوحدة الوطنية، وأن هناك حربا ستنشب لا محالة بين البدو والحضر، ثم يظهر تسجيل لمعتوه متطرف يسب أم المؤمنين فنظن أن كل من هم على مذهبه يتبعون ملته ويصنعون صنعه، ونعتبر ما قاله إعلان حرب على السنّة من قبل الشيعة، ثم على الجانب الآخر، يرفض متطرف أو اثنان بناء مسجد للشيعة فنحسب أن السنّة كلهم معهم في ذلك وأنهم ينوون القضاء على الشيعة، بعد ذلك يصرح نائب بنيته تقديم اقتراح بتعديل بعض مواد الدستور فنظن أنها حملة لتفريغ الدستور من محتواه والقضاء على الديمقراطية في البلد!

نبالغ في كل حدث بسيط لكي نجد مادة نتحدث عنها في الصحف أو في القنوات الفضائية، تحول إعلامنا فجأة إلى ساحات قتال بين هذا وذاك، وهذه وتلك، والنتيجة أننا أصبحنا لا نرى شيئا جميلا في وطننا، مع أننا في مقارنة بسيطة مع كل من هم حولنا سنجد أننا أفضل في كل شيء تقريبا، ومحسودون على النعمة التي نعيش فيها، نعم، فلانزال نتمتع بنظام ديمقراطي، ونعيش أجواء حرية الرأي والتعبير، ولدينا فائض كبير في الميزانية، ولا نزال نرتدي أفضل الماركات العالمية، ونقود أفضل السيارات، ونتغدى ونتعشى في أفضل المطاعم، ونعشق الجلوس لساعات في "ستاربوكس" وأخواتها!

لا أريد من كلامي هذا أن نصبح كزوجة الكاتب التي ترى في الفواجع حظا حسنا، لكنني أدعو إلى أن نكون واقعيين بعض الشيء في تعاملنا مع الإعلام، وأن نذكر الإيجابيات كما نذكر السلبيات بنفس المساحة وبالبنط العريض، فالنقد ليس معناه الشكوى الدائمة من تردي الأوضاع، بل بذكر الأخطاء مع الحلول الناجعة، وكذلك ذكر الأشياء الجميلة والتشجيع على زيادتها، ونحن لا نزال في خير ونعمة والقادم أجمل بإذن الله، ولنتذكر دائما مقولة الراحل الجميل أحمد الربعي، والتي كان يرددها في أصعب الأحوال وأسوئها: "تفاءلوا.. فالكويت ما زالت جميلة"!

وكل عام وأنتم بخير.