لا أظن أن طيفاً من أطياف المجتمع العربي تمثل هزيمة عام 1967، وانسحق بأثرها المقيت، كما عانى الكتّاب والفنانون والمثقفون. فلقد مسّت النكسة أو الهزيمة أرواحهم، ولطخت بالطين لوحة أحلامهم البيضاء، وعوّقت أمانيهم بمستقبل أجمل لأوطانهم. وسرعان ما انعكس ذلك على مجمل النتاج الإبداعي العربي، لحظة وجد الكاتب العربي نفسه منزوياً ومهزوماً ومنكسراً وعارياً إلا من سلاح كلمته. وراح يسطّر وجعه في القصيدة والرواية والقصة واللوحة والمسرحية والفيلم، وكأن لسان حاله يقول: أنا أعجز من أن أقوّم نظاماً سياسياً، لكنني أقدر على إطلاق صرختي وفضح النظام، وكتابة خيباته، والجهر بسوءاته، وتسليط الضوء على برك الفساد والدكتاتورية التي يخوض فيها.

Ad

بالرغم من النقلة الكبيرة التي عاشها العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، وأكدت الوجود المتنامي للفكر والثقافة والعلم والفنون في حياة الشعوب، حيث إن ثورة الاتصال والإعلام، ومحركات البحث، ومواقع الإنترنت، تقول ليل نهار إن وصل الشعوب، شعوب الأرض قاطبة، بات يمرّ عبر الفكر والإبداع والكلمة، أكثر من تعيشه على التقارب الرسمي. فمازال العالم العربي ينظر إلى الثقافة والمثقف، بوصفهما الهامش، وبوصفهما الفئة التي لا تستحق من المائدة إلا الفتات والفضلة الباقية. ويتجلى ذلك كأوضح ما يكون في مخصصات الثقافة والفنون المتدنية في الميزانيات العامة للدول العربية، وتستوي في ذلك الدول الغنية والفقيرة.

إن اقتراباً حقيقياً من عالم الكاتب العربي، وحياته ووضعه المعيشي والأسري، يثير من الأسى والحزن والدهشة الشيء الكثير، حتى ليبدو الأمر أقرب إلى الفنتازيا منه إلى الواقع الحياتي المعاش. فقلة قليلة جداً، هم الكتّاب العرب الذين تمكنوا من العيش الكريم بمردود مبيعات كتبهم أو أعمالهم الفنية، وقلة قليلة أخرى، من لاقوا تكريما يليق بما قدموا لأوطانهم، وتقديراً يماثل ما ضحوا به من أعمارهم، مخلصين لمهنة الفكر والكتابة والفن.

تتكالب على المبدع العربي ثلاث قوى ظالمة لا سبيل للوقوف في وجهها وهي: الأنظمة الحاكمة، والوعي الجمعي الاجتماعي، وحركة الطباعة والنشر والتوزيع. فأنظمة الحكم لا تقيم وزناً لمبدع أو إبداع، خاصة إذا اتخذ هذا المبدع من الجديد والمختلف نسقاً لأعماله. كما أن الوعي الجمعي الاجتماعي، لا يرى في المبدع خالقاً فنياً مائزاً يستحق الإجلال، وأخيراً تبتلع حركة الطباعة والنشر والتوزيع حقوق المبدع العربي، وتعتاش على ريع جهده وإبداعه، وفي أفضل الأحوال تتفضل عليه بأقل القليل.

إن هناك وعياً عربياً جديداً آخذاً بالتشكل، بالنظر إلى الثورات العربية السلمية المشتعلة، في مختلف العواصم العربية. وإن أوجب ما يفترض التنبه إليه بناء على الوضع الجديد، هو ضرورة إعادة النظر في قيمة الفكر والثقافة والفن، وقيمة المفكر والفنان، وإنزال الإبداع والمبدع المكانة المناسبة. فالثورات العربية الجديدة ابتعدت عن العنف، واتخذت من الشعارات والممارسة السلمية منهاجاً لتحقيق أهدافها. وبما يوحي بتقدم وعيها، بوصفه وعياً إنسانياً عصرياً، يحلم بالحرية والديمقراطية والسلام والمساواة والعدالة.

إن الالتفات إلى الفكر والإبداع والثقافة، ورفد المؤسسات الرسمية والأهلية وهيئات المجتمع المدني، بما تستحق من رؤوس أموال ورعاية، وإطلاق الحريات لها، وإنزال المفكر والمبدع المنزلة التي يستحقانها قد يكون، في حالة حدوثه، خير دليل على تحول إيجابي في فكر الأنظمة الحاكمة. فتعزيز دور الإبداع والفكر، في لحظتنا الراهنة، هو الثمر الأجمل لثورات الشعوب العربية.