نبتة البلوى في أرض الاستثمار

نشر في 19-05-2011
آخر تحديث 19-05-2011 | 00:00
 فوزي كريم قبل أيام قرأتُ تقريراً محزناً كتبه الشاعر العراقي طالب عبدالعزيز في جريدة القبس عن البقايا الناطقة من «دار جدي»، و»منزل الأقنان» في قرية «جيكور»، وهي تتمتم بلسانها الأصفر الذي يوشك أن يزول، آخر ما نبت فيها من كلام شكوى، كم بقي أخضر في شعر السياب! «دار جدي»، «منزل الأقنان»، «جيكور»، «بويب»، «شناشيل ابنة الجلبي»، «شباك وفيقة»، لم يحفظها العراقي والعربي كرموز مجردة داخل لغته، بل كحضور حي داخل مخيلته، وفي غمرة مشاعره. كل شاعر عراقي أو عربي، أو محب للشعر منهما، لابد أن يقترن العراق في كيانه بالسياب. وهل السياب إلا حفنة «دار جدي»، «منزل الأقنان»، «جيكور»، «بويب»، «شناشيل ابنة الجلبي»، «شباك وفيقة»....؟

يقول التقرير إن أحداً من شعراء البصرة يتردد ألف مرة قبل أن يقرر زيارة هذه الأماكن المقدسة لديه. «لأن زيارة مثل هذه توجع القلب وتدميه». توجع وتُدمي لأنه يرى ويلمس عن قرب كيف تدب روح الزوال الشريرة في أطيانها وأخشابها. أما الشعراء ومحبو الشعر من العرب فلن يلحقوا ليروا هذه البقية الباقية، في أي مربد قادم، قد يستعد لاستقبالهم ذات يوم، في هذا العراق العجيب الذي لا تتوقف شهوته عن هرس عظام أبنائه الموهوبين، حتى بعد رحيلهم.

أعرف أن «جيكور» السياب الشعرية تسامت في الوعي الشعري «الجمعي»، الذي لا يزول. ولكن آثارها الأرضية القابلة للزوال هي إرث، على السلطة أن تُعنى به كما تُعنى بأي أثر يمنح لبلدها المعنى الذي يفخر به. «جيكور» السياب الشعرية لا تحتاج سلطة، ولا رجل سلطة يحنو عليها بالعطف، لأن صورتها أسمى من السلطة الزائلة، ومن رجل السلطة الزائل. إنها هناك:

«وجيكور خضراء مسّ الأصيل

ذُرى النخلِ فيها بشمس حزينة.

ودربي إليها كومض البروق،

بدى واختفى ثم عاد الضياءُ فأذكاه حتى أنارَ المدينة،

وعرّى يدي من وراء الضماد كأن الجراحات فيها حروقْ.

وجيكور من دونها قامَ سورٌ، وبوابةٌ، واعتلتها سكينة».

ثم قرأت نداءً من لوعة القلب العراقي ذاتها يتحدث هذه المرة عن محاولة بيع «بيت الجواهري» في بغداد، ثم هدمه من أجل بناء عمارة استثمار. المناشدة للسلطة عادة. لأن السلطة لا تعرف المبادرة في الشأن الثقافي. وبالرغم من أن الجواهري لم يُقم في بيته، وعلى أرضه العراقية إلا سنواتٍ قليلة، قياساً لعمره المديد، بل في بيت منفاه الدائم عبر القارات، فإن حجم قامته لا يُحسب حساب السنوات. فعبارة «أنا العراق» في إحدى قصائده تتجاوز حدودَ التعبير المجازي. فهو العراق السياسي والشعري الحديث حقاً. ما من حدث لم ينعكس بلونٍ جواهريٍّ خاص في ديوانه الواسع. وما من شاعر عاش مراحل الجواهري، أو المرحلة التي تلت مرحلته بقليل، إلا وشفّ عن تأثرٍ، أو تأثر مضاد، بشعره.

وكما أوضحتُ مع السياب أوضح هنا أن اسمَ الجواهري وشعرَه لا يُحوجان قارئه العراقي والعربي إلى توسط السلطة ورجل السلطة. إنهما زائلان وهو باقٍ. بل هو، خلافاً لـ»آخروية» السياب، دنيويٌّ فاعلٌ في عمق احتقاره لكليهما. وحتى في عمق احتقاره للخلود:

فيما التحايلُ بالخلود، ومُلْهمٌ لحفيرةٍ، ومُفكرٌ لتبابِ

حــســبي بِــلــيْــتَ تًــعِــلّــةً إذْ مــيــتــةٌ حتمٌ، وإذْ آجالنا بِنصابِ

ليتَ السماءَ الأرضُ، ليتَ مدارَها للعبقري بهِ مكانُ شِهابِ

يـــومــاً لــه ويُــقـــال: ذاك شـــعـــاعُـــه لا محضُ أخبارٍ ومحضُ كتابِ

العلةُ مع السلطة الجديدة في العراق إنها سلطة أحزاب عقائدية. ولكل حزب عقائدي أفكاره المقدسة ورموزه المقدسة. ولن تنشغل سلطته إلا ببناء وتعمير صروح هذه الأفكار، وهذه الرموز. إنها تعلو على أية قيمة لأي إرث وطني. فكيف إذا ما كان هذا الإرث الوطني «نبتةَ بلوى» في أرض الاستثمارات المتعجلة؟!

back to top