في غمرة شمس الشتاء الخليجي، واحتضان الأصدقاء، والاستكانة للراحة، يداهمني التاريخ، لا بالحدث العابر الذي يؤلب على الاستجابة أو ردة الفعل، بل بالحدث الذي يفاجئك أكبر من حجم الحياة ذاتها. فيعطل لديك حتى ردة الفعل: الشعب في تونس يستعيد وطنه من قبضة حاكمه المستبد. الشعب المصري يحاول ذلك حتى يومه السابع هذا، وأنا أكتب. يحاوله بثقة من يقبض على وطنه بيقين، ويقدر طرقا خيالية لإقالة أو هرب المستبد. وأنا بدوري أتخيل شعوبا عربية أخرى تتملى الأمر بجدية من سيجرب ذلك. فالطريق سالك: ألم يسقط أعتاهم، وأشدهم جبروتا وهو صدام حسين؟

Ad

سنقول إن هذا الأخير أسقطته قوى خارجية! ولكن ما الفرق، إذا ما كانت هذه القوى الخارجية، لمصلحة ما، استجابة متوافقة مع قوى الشعب المنهكة المستضعفة؟ الشعب التونسي لم يكن منهكا مستضعفا كالشعب العراقي. الشعب المصري لم يكن منهكا مستضعفا بالطريقة ذاتها. الفارق هنا كامن في طبيعة الحاكم المستبد. كان صدام حسين يستعين بالحكم الاستبدادي ليواصل القتل. الآخران يستعينان بالقتل ليواصلا الحكم الاستبدادي.

لم يهرب مثقفو تونس ولا مثقفو مصر من قبضة المستبد، بالطريقة التي حدثت للمثقف العراقي. وما من معارضة عراقية داخل العراق في عهد صدام حسين، ولا يمكن تخيل ذلك، مقارنة بالمعارضة ذات الوقع المؤثر في تونس ومصر. ولك أن تتخيل الأمر على مستوى الشعب عامة. فالذين هربوا من سلطة القاتل في العراق يقدرون بالملايين.

لا أريد أن أنسب فضلا لمستبدي تونس ومصر في هذا. فجريمة المستبد، في النهاية، واحدة. ولكن الشعب، مهما بلغت مراحل قمعه، لا بد له من متنفس، ولو بالسر، ليحافظ على رئة ناشطة تضمن له قدرة على الحركة. وعلى هذا الضوء هل من بلد عربي آخر يمكن أن يقرن بعراق صدام حسين، بحيث تبدو انتفاضة الشعب المنهك فيه شبه مستحيلة دون استعانة بالخارج، كما حدث في العراق؟

أعتقد أن ليبيا القذافي أقرب المرشحين غلى هذا الشبه. فالشعب الليبي غيب في العتمة، خارج التاريخ، أكثر من نصف قرن، ولم تعد رئته متعافية.

ما أريد إيضاحه هو أن مرحلة «إزالة الحاكم المستبد»، واستعادة الشعب وطنه من قبضة الدكتاتور، أصبحت ممكنة، بغض النظر عن اعتماد الشعب على قواه الداخلية برئته المتعافية، أو استعانته بقوى خارجية برئته المعطوبة. الشعب العربي لم يعد يطمئن لمصداقية مفهوم «السيادة الوطنية»، الذي فرضه الحكم العربي الإسلامي الاستبدادي طوال قرن ونصف القرن، بالصيغة المقدسة المعهودة. والشعب العربي استيقظ على عصر الإنترنت، والتحم معه، وصار كيانه الإنساني على تواصل حر ومفتوح مع كيان الآخر الإنساني حيث يكون. لم يعد يثق بلغة الأحزاب العقائدية، ولا لغة الكراهية، وخاصة كراهية الغرب. الذين خرجوا إلى الشوارع في تونس ومصر بشر من لحم ودم، لا أرقام في كادر حزبي. ما من لافتات وشعارات معدة مسبقا تحت ظل هذه العقيدة أو تلك، كما حدث في العراق على يد كتل حزبية، استثمرت التغيير باسم مثل إيهامية كاذبة. وما من أهداف مثالية لبناء دولة المستقبل التي ستطل، مقترنة دائما بطلعة قيادة نضالية مع إشراقة الشمس. الناس اليوم أكثر عقلانية، وواقعية. قد لا يرحل مبارك على طريقة بن علي. قد يعبر الأزمة بسبل سحرية. ولكن عهد المصريين بالحكم الاستبدادي الفردي قد تلاشى إلى الأبد.

شعوب العرب الأخرى وضعت على لائحة أولوياتها ضرورة التغيير لأنها ضرورة ممكنة. لا رائحة فيها للاستحالة، كما كانت في عهد صدام حسين. ولهذا السبب وحده يخيل لي أن الشرارة التي أصبحت لهبا في تونس وفي مصر، والتي بدت حرارتها حيية في اليمن والسودان، إنما بدأت في العراق قبل سنوات سبع. الذي أربك وجه الشبه هو التدخل الخارجي. مع أن وجه الشبه يجب ألا يغادر حقيقة وواقع زوال الدكتاتور المستبد، وبناء الحكم الدستوري الديمقراطي.

هل بدأت مرحلة زوال الحكم الاستبدادي، الذي تأصل في دمنا منذ تأسيس الدولة العربية الإسلامية حتى اليوم؟