الرأي العام الفلسطيني مرن... لكنه طموح!
تتسم الأفكار المنتشرة بين الشعب الفلسطيني بالازدواجية، وتبقى انعكاساتها السياسية على الولايات المتحدة مبهمة، وتشير المرونة التكتيكية المؤكدة في الشارع الفلسطيني، في ما يخص موضوع استئناف المفاوضات والاعتراف الشعبي الواسع بعدم وجود أي خيارات بديلة جيدة في هذا الاتجاه، إلى أن واشنطن يجب أن تصر على تشجيع السلطة الفلسطينية وإسرائيل على إيجاد الطريقة المثلى للعودة إلى طاولة المفاوضات.
في ظل الانتكاسة الأخيرة التي شهدتها عملية السلام، أي الفشل المتواصل في الاتفاق على "محادثات سلام لعقد صفقة من أجل تجميد عمليات الاستيطان"، تكشف ميول الرأي العام الفلسطيني عن مرونة غير متوقعة على مستوى الاستراتيجيات القصيرة الأمد، ولكنها تشير أيضاً إلى نوايا مقلقة على المدى الطويل، فقد أظهرت خمسة استطلاعات رأي شملت الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي غزة، أجرتها خمسة من أهم مؤسسات مختلفة لقياس الرأي، بين شهري أكتوبر ونوفمبر 2010، صورة مربكة عن آراء الشارع الفلسطيني.من الناحية الإيجابية، وعلى عكس الأفكار التقليدية السائدة، يدعم الشعب الفلسطيني استئناف محادثات السلام مع إسرائيل، حتى من دون أي شروط مسبقة، وكان من المفاجئ أن يكون الدعم للجبهات المعارِضة مثل "حماس" وإيران ضئيلاً جداً في الآونة الأخيرة. كذلك، تُظهر استطلاعات رأي عدة أن غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة مستعدون لقبول حل إقامة الدولتين مع إسرائيل، حتى أن نصفهم مستعدون أيضاً للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية قائمة إلى جانب الدولة الفلسطينية.
لكن في الوقت نفسه، عبّر فلسطينيون عن دعمهم الكامل لأن يكون تجميد الاستيطان شرطاً مسبقاً لاستئناف المفاوضات المباشرة حين سُئلوا صراحةً عن هذا الموضوع. فضلاً عن ذلك، صحيح أن معظمهم يدعون دعمهم لحل إقامة الدولتين، لكن من الواضح أن غالبية أكبر لاتزال تدعو إلى استرداد حدود ما قبل عام 1967 أيضاً. تطرح هذه النتائج أسئلة كثيرة بشأن ما إذا كانت السلطة الفلسطينية هي التي توجه الرأي العام أو تتبعه، وما إذا كانت محادثات السلام، حتى لو كانت قابلة للتجديد، ستؤدي يوماً إلى اتفاق مبنيّ على القبول الشعبي الدائم.خلفية الآراء الراهنةفي شهري يوليو وأغسطس 2010، ومجدداً في شهر نوفمبر، سافر كاتب المقالة إلى الشرق الأوسط للقاء مسؤولين من مؤسسات قياس الرأي والاستطلاعات الفلسطينية ومراقبة عملهم في رام الله وبيت لحم والقدس. ترتكز هذه المقالة على تلك المشاورات وعلى النتائج التي حصلت عليها منظمات استطلاعات الرأي الخمس الآتية: المركز الفلسطيني لاستطلاعات الرأي العام، ومركز العالم العربي للبحوث والتنمية، والمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمَسحيّة، ومركز القدس للإعلام والاتصال، ومركز غرينبيرغ كوينلان روزنر للأبحاث.جرت استطلاعات الرأي الخمسة خلال الأسابيع التي تلت إقدام السلطة الفلسطينية على تعليق محادثات السلام بسبب انتهاء مدة تجميد بناء المستوطنات الجديدة في إسرائيل. شمل كل استطلاع رأي مقابلات مباشرة مع عينة تمثل المناطق الجغرافية المعنية وتتشكل من 1000 إلى 1200 فلسطيني من الضفة الغربية وغزة، مع هامش خطأ تقريبي يبلغ أكثر أو أقل من 3%. قدمت مؤسسات استطلاع الرأي الفلسطينية رأياً مقنعاً مفاده أنها قادرة على إجراء استطلاعات رأي موثوقة، حتى في ظل حكم "حماس" في غزة (مع أن المضايقات الرسمية والاجتماعية بدأت تتزايد على ما يبدو)، وذلك عن طريق المراسلين المحليين وأجهزة معالجة البيانات.دعم محادثات إسرائيل ورفض خيارات بديلةفي السؤال المتعلق باستئناف المحادثات مع إسرائيل، تتوقف آراء معظم الناس على الإطار الذي ستعتمده المفاوضات. فقد أظهرت ثلاثة استطلاعات رأي مختلفة على وجه التحديد أن غالبية من الفلسطينيين (54%-62%) تدعم تجميد الاستيطان كشرط مسبق محتمل للمفاوضات. وأشارت ثلاثة استطلاعات رأي مختلفة أيضاً إلى أنه، في حال ذكر تجميد الاستيطان كشرط مسبق محتمل للمفاوضات، فسيُبدي معظم الفلسطينيين (54%-62%) دعمهم لذلك المطلب. لكن إذا ما سُئلوا ببساطة عن التفاوض مع إسرائيل، من دون ذكر شيء عن الشروط المسبقة، فيشير استطلاعا رأي آخران إلى دعم الغالبية لاستئناف محادثات السلام، من دون أي قيد أو شرط. يمكن تفسير هذا الموقف باختلاف طريقة طرح الأسئلة: يقول حوالي ثلثي الفلسطينيين (64%) إنهم يحتاجون إلى نجاح المفاوضات أكثر من إسرائيل، بينما تقول نسبة مشابهة من الفلسطينيين، في استطلاع رأي مختلف، إن اسرائيل "مهتمة بعقد سلام مع الفلسطينيين، أقله لدرجة معينة".في وقتٍ سابق من هذا الشهر، بدأ رئيس السلطة الفلسطينية بمناقشة خيار حل السلطة نهائياً بشكلٍ علني في حال استمرار الطريق المسدود مع إسرائيل، لكن من الواضح أن الشعب الفلسطيني يعارض تلك الخطوة. في أحد استطلاعات الرأي مثلاً، اعتبر ربع المستطلعة آراؤهم ذلك الاقتراح "مناسباً" أو أكدوا أن الفلسطينيين قادرون على "تحمل العواقب"... ويُظهر استطلاع آخر وجود دعم لتلك الخطوة الجذرية، لكن بنسبة أعلى بقليل (30%).صحيح أنّ الدعم الشعبي لاستعمال العنف ضد إسرائيل أو تجديد "الانتفاضة المسلحة" لايزال يحظى بنسبة دعم أكبر، ولكنه يبقى رأي الأقلية في معظم الاستطلاعات، إذ تتراوح نسبة مؤيدي هذا الخيار بين 25% و40%، بحسب طريقة طرح السؤال. في المقابل، يؤيد حوالي نصف الشعب الفلسطيني إما "اللجوء إلى المقاومة الشعبية غير المسلحة والخالية من العنف" وإمّا الإعلان الأحادي الجانب لاستقلال فلسطين. وكان من المفاجئ أن نجد أن سكان غزة يميلون أكثر بقليل من سكان الضفة الغربية إلى تأييد خيارات مماثلة، ويقضي الخيار البديل الوحيد لكسب دعم الغالبية المطلقة بدعوة مجلس الأمن إلى الاعتراف بهذه الخطوة، لكن يرى ثلاثة أرباع الفلسطينيين أن الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض لمعارضة تدبير مماثل.تدني حجم الدعم لـ"حماس" وإيران ونجادعلى نحوٍ مفاجئ تؤكد أحدث استطلاعات الرأي على نزعة سائدة منذ سنتين: لاتزال السلطة الفلسطينية وقادتها متفوقة على "حماس" وقادتها في استطلاعات الرأي، وقد وصل الفرق راهناً إلى هامش يتخطى النقطتين مقابل نقطة واحدة، وتسجل حركة "فتح"، ومحمود عباس، ورئيس الحكومة في السلطة الفلسطينية سلام فياض عموماً نسبة تأييد أو ثقة تتراوح بين 45% و60%. في المقابل، تحظى "حماس" والقائد إسماعيل هنية عموماً بنسبة تأييد تتراوح بين 15% و25%.تشير هذه الأرقام في معظمها إلى وجود اختلافات ضئيلة بين آراء سكان غزة والضفة الغربية. على سبيل المثال، أظهر استطلاع رأي موثوق أُجري بين 20 و22 أكتوبر أن عباس سيحصل على 38% من الأصوات في غزة في حال إجراء انتخابات جديدة، مقابل 11% فقط لمصلحة هنية. وتتزامن هذه الأرقام مع انتشار آراء عدة بشأن أداء كل حكومة في مجالات تقليص حجم الفساد، وتعزيز الأمن، وتوفير الخدمات العامة، علماً أن وجهة نظر الفلسطينيين تتعلق بكيفية انعكاس الوضع على حال العائلات. في جميع هذه المجالات، تحسن الوضع بشكل ملحوظ في الضفة الغربية أكثر من غزة في الفترة الأخيرة.وعلى خلاف ما يظنه كثيرون، تحظى السياسات المتطرفة الإيرانية راهناً بدعم ضئيل نسبياً في الضفة الغربية وفي غزة. يقول 29% من الفلسطينيين فقط إن حصول إيران على الأسلحة النووية سيكون على الأرجح مفيداً بالنسبة إلى المنطقة. ويرى 37% منهم أن أي إنجاز نووي إيراني لن يكون مهماً، بينما يعتبر 34% منهم أنه سينعكس سلباً على المنطقة. كذلك، يشير استطلاع رأي منفصل إلى انتشار وجهات نظر سلبية تجاه إيران ورئيسها محمود أحمدي نجاد، في الضفة الغربية وفي غزة معاً. على مقياس مؤلف من مئة نقطة، حصدت إيران ما معدله 39 نقطة تأييد في الضفة الغربية و43 في غزة.وجاءت نسبة تأييد أحمدي نجاد متدنية بالشكل نفسه أيضاً: 42 نقطة في الضفة الغربية و37 نقطة في غزة، ومنذ يوليو 2009، بقيت هذه الأرقام ثابتة في غزة وتراجعت بمعدل عشر نقاط في الضفة الغربية.حل "الدولتين" أم حل "على مرحلتين"؟في 6 ديسمبر، صرح فياض أمام حضور من الاتحاد الأوروبي بأن "الغالبية من الطرفين تؤيد حل إقامة دولتين"، حيث ستنشأ دولة فلسطينية مستقلة جديدة كجزء من اتفاق سلام دائم مع إسرائيل. تُظهر استطلاعات رأي عدة أن غالبية الفلسطينيين لايزالون يؤيدون هذه الصيغة في الضفة الغربية وغزة معاً. ورداً على السؤال المتعلق بالاعتراف بإسرائيل موطناً للشعب اليهودي كبندٍ من اتفاق السلام، يقول معظم سكان الضفة الغربية (57%) إنهم قد يقبلون بذلك الاقتراح، لكن تنخفض تلك الأرقام بشكل ملحوظ في غزة حيث تقتصر النسبة على 37%.حين طُرحت على المشاركين في الاستطلاعات خيارات أخرى طويلة الأمد، قالت الغالبية في الضفة الغربية وفي غزة إن "الهدف الفعلي يجب أن يشمل البدء بإقامة دولتين، ثم التمهيد لأن تندمجا في دولة فلسطينية واحدة". اختارت أقلية من الفلسطينيين (34% في الضفة الغربية و23% في غزة) هذه الصيغة البديلة: يقضي "الهدف الأفضل" باعتماد حلّ إقامة الدولتين الذي يضمن تعايشهما جنباً إلى جنب، ويعود ذلك على الأرجح إلى أن 60% تقريباً من المجيبين عن الأسئلة في المنطقتين يقولون إنهم "غير واثقين" من أن "إسرائيل ستكون قائمة بعد 25 عاماً من الآن كدولة يهودية ذات غالبية يهودية".كذلك، يشير استطلاع رأي آخر إلى أن غالبية مهمة (65%) تعتبر أنه من "الأساسي" أن "تكون فلسطين التاريخية من نهر الأردن حتى البحر جزءاً من اتفاق السلام"، مع أن نصف ذلك العدد تقريبا (31%) فقط يعتبر هذا الاقتراح "السيناريو الأكثر واقعية أو الأكثر قابلية للتطبيق". على مستوى احتمال تطبيق خطوة مماثلة، حصد حل إقامة الدولتين نسبة تأييد مهمة (45%)، بينما فضلت أقليات أصغر حجماً حل إقامة دولة واحدة، على أن تكون دولة بكيانين حيث "يتشارك الإسرائيليون والفلسطينيون السلطة ويُعتبرون مواطنين متساوين" (14%) أو إقامة اتحاد كونفدرالي مع الأردن ومصر (11%).الانعكاسات السياسيةتماماً كما تتسم هذه الأفكار المنتشرة بين الشعب الفلسطيني بالازدواجية، تبقى انعكاساتها السياسية على الولايات المتحدة مبهمة، وتشير المرونة التكتيكية المؤكدة في الشارع الفلسطيني، في ما يخص موضوع استئناف المفاوضات والاعتراف الشعبي الواسع بعدم وجود أي خيارات بديلة جيدة في هذا الاتجاه، إلى أن واشنطن يجب أن تصر على تشجيع السلطة الفلسطينية وإسرائيل على إيجاد الطريقة المثلى للعودة إلى طاولة المفاوضات. لكن ما إن تبدأ المفاوضات الجدية بشأن شروط السلام، فإن تلك النتائج ستشدد على أهمية الدعم الأميركي لتعزيز الثقة بين الطرفين والتفكير الجدي بإيجاد طرق ملموسة تضمن التوصل إلى تسوية سلام نهائية بين الإسرائيليين والفلسطينيين.David Pollock* مسؤول بارز في معهد واشنطن ومُعدّ دراسة صدرت عام 2010 بعنوان "لابد من الأفعال لا المواقف فحسب: معيار جديد للعلاقات الأميركية العربية" (Actions, Not Just Attitudes: A New Paradigm for U.S.-Arab Relations.)