تونس: ثورة شعب في سبيل الكرامة

نشر في 24-01-2011
آخر تحديث 24-01-2011 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري على هامش مشاركتها في منتدى المستقبل بالدوحة حذرت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية حكومات المنطقة من الغرق في رمال الاضطرابات والتطرف، وانتقدت الفساد المستشري، وقالت: من أجل حصول شركة أجنبية على ترخيص لابد من دفع رشا إلى الكثيرين، وعند العمل عليك دفع مثلها، ولكي يستمر عملك لابد من رشوة أيضاً، وعند تصدير بضائعك لابد أن ترشو البعض، وطالبت كلينتون الحكومات العربية بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، وحذرت المتمسكين بالوضع الراهن بأنهم قد يتمكنون من الصمود لفترة قصيرة لكن ليس طويلاً، فهناك آخرون سيملؤون الفراغ إذا فشل القادة في إعطاء أمل للآخرين، فالمتطرفون والإرهابيون والآخرون الذين يتغذون على الفقر واليأس موجودون على الأرض وينافسون على النفوذ.

أتت هذه التحذيرات التي تلخص أبرز أزمات المجتمعات العربية قبيل يوم فقط من تنحي الرئيس التونسي بن علي ورحيله بعد حكم دام 23 عاماً، رضوخاً لحركة الاحتجاجات الاجتماعية ضد نظامه، والتي استمرت 26 يوماً، وكانت بدأت في 17 ديسمبر 2010 حين أضرم شاب يدعى محمد بوعزيزي النار في نفسه احتجاجاً على مصادرة عربة الخضار التي يتكسب منها، ثم امتدت إلى مختلف أرجاء البلاد احتجاجاً على تفشي البطالة، واستشراء الفساد، وتغول العائلة الحاكمة، والإثراء غير المشروع للنخبة المحيطة بالحاكم، إضافة إلى تصاعد القمع والتعسف ضد المواطنين، وكان من تداعياتها سقوط 78 مدنياً في مواجهات مع الأمن.

جاءت هذه التطورات السريعة رغم مبادرة بن علي في خطابه الأخير قبل الرحيل إلى تقديم مجموعة من التنازلات أبرزها: عدم ترشيح نفسه، وحل الحكومة، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وإقالة وزير الداخلية وبعض المستشارين، والإفراج عن جميع الموقوفين، وتشكيل لجنة تحقيق حول الفساد ودعم الديمقراطية والتعددية، وتوفير الحرية الإعلامية، ورفع الرقابة، إضافة إلى توفير 300 ألف فرصة عمل، لكن الوعود جاءت متأخرة ولم تتمكن من احتواء الموقف بسبب فقدان الثقة بين السلطة والشارع؛ الأمر الذي اضطر بن علي للرحيل مسرعاً، وتولي رئيس الوزراء محمد الغنوشي السلطة بشكل مؤقت، متعهداً بمواصلة الإصلاحات وتحقيق المطالب الجماهيرية وتشكيل حكومة وحدة وطنية تمهد للانتخابات.

انتفاضة الشعب التونسي التي أسقطت نظاماً عربياً استمر 23 عاماً ووصف بأنه قمعي، أدهشت الجميع وحيرت كل المحللين لاعتبارات عديدة: فهذه أول مرة يسقط فيها نظام عربي لا بفعل انقلاب عسكري أو بوفاة الزعيم أو اغتياله، ولا بعفل تدخل خارجي، بل بفعل انتفاضة شعبية. وثانياً: لم يكن أحد يحلم أو يتصور انهيار مثل هذا النظام القوي المحصن أمنياً بهذه السرعة! وعلى هذه الصورة! ولمجرد حركة احتجاجية على البطالة وسقوط 78 قتيلاً! وثالثاً: شعوب مجتمعات عربية عديدة تعاني أزمات اقتصادية أكثر من تونس، وتصل نسب البطالة عندها إلى درجات مخيفة كما تقوم بحركات احتجاجية تقمع بكل قوة، ومع ذلك لم تغير وضعاً ولم تسقط وزيراً واحداً! ورابعاً: الاقتصاد التونسي من الاقتصادات الناجحة التي كانت تحقق نسب نمو مرتفعة، وقد حقق في عهد بن علي تقدماً ملحوظاً، ووفر خدمات جيدة في قطاعات التعليم والصحة والطفولة، بل إن تونس احتلت مراتب متقدمة في المؤشرات الاقتصادية العالمية في مجالي سهولة أداء الأعمال وحماية الاستثمار.

وتونس «الخضراء» ظلت توصف على مدى سنوات بالبلد الهادئ الذي يتعين على جيرانه الاحتذاء به، إذ شكلت واحة خضراء مستقرة، مزدهرة سياحياً يصل نصيب الفرد من الناتج الإجمالي إلى 8 آلاف دولار، مع اقتصاد متنوع يشمل السياحة والصناعة والتصدير بحسب إحصاءات سابقة، ولا أخفي أني شخصياً ومنذ زمن بعيد أرقب تجربتين تنمويتين أراهما فريدتين: تونس والأردن كونهما غير معتمدتين على موارد ريعية، وكان المرحوم أحمد بهاءالدين قد أشار إليهما في إحدى مقالاته، لذلك احتار المراقبون وتباينت تحليلاتهم أمام هذا الحدث المفاجئ، احتاروا في تسميته وفي دوافعه ونتائجه ودروسه المستخلصة وإمكانية انتقال عدواه إلى الآخرين.

تبرز حيرة المحللين في اختلافهم وصف ما حدث: أهو ثورة شعبية أم انتفاضة أم نصف ثورة؟! من يرفض وصفه بالثورة يعلله بأنه لا مطالب واضحة للمتضاهرين ولا توجد معارضة منظمة أو قوة سياسية وراء المظاهرات؛ لا من قبل قادة الأحزاب أو الناشطين أو حتى المثقفين، بل هي احتجاجات شبابية تلقائية ضد أوضاع متردية، فهي انتفاضة بلا رأس ولا مرجعيات، بدأت اقتصادية وانتهت سياسية.

ومن الطبيعي أن يحاول الجميع اليوم ركوب موجتها واستثمارها وتوظيفها والتسابق لقطف ثمارها سواءً من الإسلاميين أو الشيوعيين أو الليبراليين وذلك خدمة لمطالبهم السياسية، بل وجدنا رمزاً دينياً شهيراً يصول ويجول في مختلف شؤون الدول الأخرى، عبر الخطب والتصريحات والفتاوى السياسية، مندداً برأس النظام التونسي بعد سقوطه مستخدماً مفردات: سقط هبل واللات والعزى، في محاولة لركوب الموجة التونسية العالية، شحناً للجماهير وتحريضهم ضد الحكام الذين شكا إلى الله تعالى منهم، وهو الذي سبق أن استضافه هذا النظام الذي يسبه اليوم، فقد هتف له في احتفال القيروان عاصمة للثقافة العربية– مارس 2009– وقال: كل من يزور تونس يلمس العناية بالثقافة الدينية الإسلامية، كما يقول الكاتب الصحفي المصري سليم عزوز في مقالته: تونس عندما ينقشع الغبار!

وربما تساءل البعض: لماذا لم نجد على المرجع الديني النشط سياسياً هذه الأيام، موقفاً مشابهاً تجاه طاغية سام شعبه سوء العذاب طوال 3 عقود: حفر لهم قبوراً جماعية ولم يتورع عن صب الكيماوي عليهم، رغم أن قبضة بن علي الحديدية لا تقارن بجرائم ذلك الطاغية؟! أم أن خطايا الدكتاتور مغفورة مادام سقط بيد الأميركان؟! ويبقى أن نتساءل: ما دوافع الحدث التونسي؟ وهل جاء احتجاجاً على البطالة كما يقولون؟

إننا نقلل من أهمية الحدث عندما نصفه بأنه انتفاضة العاطلين! لم ينتفض التونسيون بدوافع تردي المعيشة والتحليلات التي تقصر الانتفاضة على المشكل الاقتصادي، شديدة السطحية، فالتونسيون ثاروا من أجل الكرامة، وهو شعب أبيّ شديد الإحساس بكرامته، هو هذا الشعب الذي خرج من بين ظهرانيهم الشاعر الثائر الذي ألهب الجماهير بقضائده الحماسية، صاحب: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة»، (أبوالقاسم الشابي).

الشعب التونسي شعب عالي الثقافة والوعي، وهناك عوامل موضوعية شكلت ثقافته المجتمعية المختلفة عن ثقافات المجتمعات العربية؛ أبرزها قرب تونس من الضفة الأخرى لحوض المتوسط مما جعلها في مهب نسائم الحريات القادمة من الضفة الأوروبية، وكذلك نظام بورقيبة: المجاهد الأكبر البراغماتي والعقلاني والمنفتح على الآخر، وهو نظام يختلف كذلك عن معظم الأنظمة الثورية العربية الشعاراتية التي خلقت وعياً مزيفاً لدى جماهيرها فأخضعتهم، مثل هذا الشعب لا يستكين للظلم ويثور لكرامته لدرجة التضحية بالذات، وهذا ما فعله البوعزيزي واقعاً، هو لم يحرق نفسه من أجل عربته المصادرة بل لأن المسؤول رفض مقابلته فشعر بالإهانة البالغة التي لم يجد حلاً لها غير التضحية بالذات.

الإهانة هي التي أحرقت البوعزيزي لا الجوع كما يؤكد الكاتب الإماراتي محمد الحمادي، وهذا يخالف موجة الانتحارات حرقاً الممتدة لمصر والجزائر وموريتانيا واليمن، والتي تتم لأسباب مادية بسيطة تشبهاً بالبوعزيزي وهو غير صحيح، وأخشى أن تذهب تضحيات هؤلاء هدراً لاختلاف ثقافات المجتمعات العربية مما يشكل قياساً مع الفارق، لذلك سارع عدد من المشايخ لتحريم هذه العدوى وخاضوا في جدل عقيم وشغلوا الناس حول: هل يعد شهيداً أم منتحراً؟!

الشعب التونسي ثار لأجل الكرامة وضد أوجه الفساد المستشرية وممارسات الغصب والنهب للنخبة المحيطة وفساد العائلة الحاكمة، ما الذي أجبر بن علي على التنحي؟ كثيرون قالوا موجة الاحتجاجات الشعبية، والحقيقة غير ذلك، لأنه لا يتصور انهيار نظام أحكم قبضته لمجرد تلك الاحتجاجات الحاصلة في كل المجتمعات، لقد تكشفت الخفايا أخيراً لتثبت أن العامل الحاسم هو موقف الجيش الوطني، هذا الجيش غير المسيس الذي قرر أن ينحاز للشعب في مطالبه العادلة ورفض موقف المتفرج، كما رفض البطش بالمتظاهرين، فخير رئيسه بين مواجهة مصيره أو الرحيل، إنه قائد أركان الجيش رشد عمار الذي لعب دوراً في تهدئة الشارع وتفادي الصدام، رفض إطلاق النار على المتظاهرين من أجل إنقاذ نظام بن علي.

الجيش الوطني التونسي الذي تم تأسيسه 1956 مؤسسة عسكرية عريقة لعبت دوراً كبيراً في الحفاظ على الدولة التونسية، الجيش التونسي لا يتدخل في الحياة السياسية، بل لضمان الاستقرار واستتباب الأمن وحماية الناس والمساعدة في إرساء مبادئ التحول السلمي للسلطات طبقاً للدستور، لماذا اختار الجيش التونسي هذا الموقف الوطني؟ لأنه جزء من ثقافة هذا المجتمع المتشبع بالحس الوطني والكرامة، ولا أدل من تغلغل هذه الثقافة الوطنية في نفوس التونسيين من أن كابتن الطائرة الرئاسية رفض نقل الرئيس وعائلته فاضطر للرحيل على طائرة خاصة تابعة للطيران التونسي!

هل تنتقل عدوى تونس إلى غيرها؟ كثيرون هللوا لنقل عدوى تونس وطالبوا الجماهير بالنزول إلى الشوارع للتظاهر لإسقاط أنظمتها، وقالوا: إن ثورة الياسمين أول تمرد شعبي ينجح في إطاحة رئيس دولة عربية، وهذا يعد مصدر إلهام لدول أخرى في المنطقة! وأقول لهؤلاء: أنتم واهمون إذا تصورتم أن تحريضكم وشحنكم للجماهير العربية بثقافة الكراهية ضد أنظمتها تحقق أهدافكم، كما أنكم جاهلون في اختلاف طبيعة الثقافات المجتمعية، كما أن تحليلاتكم تتسم بالسذاجة والسطحية.

الآن ما الدروس المستخلصة؟ لعل أهم الدروس التي يمكن للحكومات العربية أن تستخلصها هو أن إحساس المواطن بكرامته هو أهم مقومات المواطنة وأساس الاستقرار، كما أن احترام حريات التعبير واستقلالية القضاء ومكافحة الفساد والرشوة ومحاباة الأقارب من أبرز مرتكزات استقرار النظام، ويبقى أن نقول للقوى السياسية المعارضة في تونس، والتي تريد هدم المعبد كله وتصفية النظام السابق وتفكيك مؤسساته وملاحقة عناصره، إن الحكمة مطلوبة هذه الأيام، وعليكم أخذ الدروس مما حصل في العراق بعد سقوط الدكتاتور، إذ انشغلوا بتصفية النظام السابق وتفكيك مؤسساته فماذا كانت النتيجة؟! دوامة من العنف والفوضى!

إن ما تحتاجه تونس اليوم فتح صفحة جديدة، وتحقيق مصالحة جامعة، وتشكيل حكومات وحدة وطنية تشرف على انتخابات حرة تضمن الانتقال السلس إلى ديمقراطية مستقرة، وتحية للشعب التونسي على انتفاضته من أجل الكرامة والحرية.

* كاتب قطري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top