ربما أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي لديها معرفة بإسرائيل من الداخل، بالنسبة إلى صُنَّاع القرار وبالنسبة إلى الأحزاب والتيارات السياسية وأفكارها ومنطلقاتها وبرامجها ومواقفها تجاه صراع الشرق الأوسط، وأيضاً بالنسبة إلى قيادات الجيش ومستوياتهم وكفاءاتهم العسكرية، ومسؤولي الأجهزة الاستخبارية خصوصاً جهاز "الموساد" الذائع الصيت الذي تمكن من تحقيق اختراقات خطيرة في بعض الدول العربية، من بينها قصة إلياهو كوهين الشهيرة والمعروفة في سورية بستينيات القرن الماضي.

Ad

وحتى منظمة التحرير التي من المُفترَض أنها المعنية أكثر من غيرها بمثل هذه "المعرفة"، فإن محاولاتها على هذا الصعيد قد اقتصرت على فترة عابرة هي فترة احتدام حرب التصفيات المتبادلة بين الأمن الفلسطيني بقيادة صلاح خلف (أبوزياد) وبين "الموساد" الإسرائيلي في سبعينيات القرن الماضي، وللإنصاف فإنه لابد من الإشارة إلى أن إنشاء مركز الدراسات الفلسطينية في بيروت كان محاولة جادة لمعرفة إسرائيل من الداخل، ودليلُ أهمية هذا المركز أن أول ما قامت به القوات الإسرائيلية بعد اجتياح العاصمة اللبنانية في يونيو عام 1982 هو التوجه إليه ونهب كل موجوداته ووثائقه ونقلها إلى تل أبيب.

في المقابل، ما يعرفه التابعون لهذا الشأن هو أن الحركة الصهيونية بادرت في وقت مبكر جداً بالتعاون مع الأجهزة الاستخبارية الغربية، خصوصاً البريطانية، إلى إرسال بعثات استطلاعية واستكشافية تمكنت خلالها من جمع معلومات في غاية الأهمية لاتزال معتمدة حتى الآن حول جغرافية هذه المنطقة، أنهارها وجبالها ونباتاتها، وأن إسرائيل منذ قيامها حتى هذه اللحظة لم تترك شأناً عربياً ألّا واستهدفته بالبحث وجمع المعلومات من المياه إلى الثروات الطبيعية إلى ما في باطن الأرض وما فوقها، بالإضافة إلى المكونات الاجتماعية والعادات والتقاليد والأحزاب والأقليات القومية والدينية، وبالطبع

التشكيلات العسكرية والأجهزة الأمنية.

والآن، وبينما من المقرر أن تبدأ المفاوضات المباشرة بينهم وبين الفلسطينيين في واشنطن الخميس المقبل، فإن المؤكد أن الإسرائيليين أصبحت لديهم معرفة أكيدة بكل واحد من أعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض منذ لحظة ولادته حتى هذه اللحظة، وعلاقاته بالرئيس محمود عباس (أبومازن) وتحصيله العلمي وحساباته البنكية وطريقة تفكيره وأسلوب تعامله مع زوجته وأولاده وجيرانه، وكل هذا يندرج تحت الشعار المهم القائل "اعرف عدوك".

بينما المؤكد أن أشقاءنا الفلسطينيين ربما لا يعرفون أسماء أعضاء الوفد الإسرائيلي المفاوض حتى الآن، مع أنه لم يبقَ على انطلاقة المفاوضات المباشرة إلّا يومان، والمعروف أن هذه هي الحال التي سادت كل محطات التفاوض السابقة، وهي حال لا يمكن الإحاطة بكل عشوائيتها إلّا بالقول إنها كانت تشبه "تغريبة" بني هلال!