قبل يومين، نشرت الصحف والمواقع الإلكترونية المختلفة خبراً مفاده أن بنكاً عالمياً أجرى مسحاً على عدد من الدول، وأن نتائج هذا المسح كشفت أن العمالة الوافدة في روسيا والسعودية والبحرين هي الأغنى في العالم، في ما يتعلق بأجور الخبراء الأجانب.

Ad

ثمة الكثير مما يقال في نقد نتائج هذا المسح، الذي اعتمد على استطلاع رأي عينة من المغتربين في عدد من الدول، سواء في ما يتعلق بطريقة اختيار المستطلعة آراؤهم، أو في ما يختص بتحديد مفهوم «الأغنى»، أو في ما يتصل باقتصاره على رصد طائفة الخبراء فقط وليس أصحاب المهن البسيطة الأخرى.

لكن المفاجأة تكمن في أن الخبر لم يكد ينشر حتى اندلعت ثورة أحقاد عارمة بين أفراد من رعايا نحو عشر دول عربية، انخرطوا جميعاً في حفلات سب جماعي، تلحق الصفات المشينة بمواطني الدول الأخرى، وتمارس استعلاءً وزهواً شوفينياً فارغاً، على طريقة «خيرنا يذهب لغيرنا»، في مقابل «نحن لا نتقاضى إلا الفتات، فيما نبني لكم البلد».

يمكنك أن تطالع تعليقات مستخدمي الإنترنت العرب، الذين ينتمون إلى عدد كبير من الدول، على الخبر في المواقع الإلكترونية المختلفة، لتعرف أن حجماً كبيراً من الأحقاد والضغائن والانفلات الأخلاقي يموج في صدور الكثيرين، وينتظر أي فرصة مواتية للتعبير المزري عن ذاته.

قبلها بقليل، كانت شبكة «الإنترنت» ميداناً فسيحاً لحفلة أحقاد مشابهة، حين نشر عدد من المواقع قصة الأزمة الناتجة عن لعب ممثلة مغربية دور «فتاة ليل»، يتصارع عليها مصري وخليجي، في مسلسل رمضاني. يحفل كل مجتمع بالطيب والقبيح، ويضم أعداداً من العاهرات في مقابل وجود أكيد للكثير من العفيفات الطاهرات، وتحفل الدراما منذ عقود بصور وأدوار متباينة للنصاب أو المقاوم من هذا البلد، والعدو أو الصديق من ذاك المجتمع، والعالم أو الجاهل من هنا، والغني أو الفقير من هناك، لكن شيئاً ما تغير، بحيث صار تقديم دور سلبي عن مواطن من أحد البلدان العربية وسيلة لفتح الباب لآلاف من ناشطي «الإنترنت» للانخراط في حفلات السب الجماعي المتبادل، والحط من شأن الكرامة الوطنية، والنيل من شرف الأوطان.

ليس هناك أسهل من تفجير معركة كلامية شرسة على «الإنترنت» بين مواطني عدد من الدول العربية على خلفية الزهو القومي الاستعلائي بمجرد أن ينحو أحدهم إلى التحرش بمواطني الدول الأخرى أو الإفراط في تمجيد الذات. يحدث هذا كثيراً أيضاً على عدد من المحطات الفضائية، التي توفر خدمة عرض الرسائل الهاتفية القصيرة، كما يحدث من خلال بعض الاتصالات الهاتفية في برامج الهواء، أو من خلال أحاديث المصادر وبعض المذيعين.

لم يقتصر الأمر على بلدان بعينها، ففي منتصف شهر رمضان، نشبت أزمة مماثلة بين جهات مغربية وكويتية، على خلفية مسلسل كارتوني صور «امرأة مغربية تحاول استدراج شبان كويتيين إلى زواج أشبه بالدعارة عبر أعمال السحر والشعوذة». ورغم اعتذار الجانب الكويتي عن «أي إساءة يمكن أن يكون العمل قد تسبب فيها للمرأة المغربية»، فإن حفلات السب المتبادل لم تهدأ بين الجانبين على الشبكة العنكبوتية، بحيث تحولت المنتديات والتعليقات على الصحف الإلكترونية إلى ساحة متردية في أحقر المناطق العشوائية، يتبادل فيها الناشطون الإلكترونيون شتائم من أسوأ القواميس وأقذرها.

الأمر ذاته تكرر، حين وقعت جريمة «كترمايا» التي قُتل فيها عامل مصري في إحدى قرى لبنان، وتم التمثيل بجثته من قبل أهالي القرية، قبل عدة شهور. وبعيداً عن محاولة إدانة حال الاحتقان والغل والسلوك الهمجي الذي انخرطت فيه جماهير من سكان تلك القرية تجاه ذلك الفرد الوحيد الأعزل، مهما كانت التهم الموجهة إليه، فإن ما يدعو إلى القلق فعلاً لم يكن فقط هذا الانخراط الجماعي في ذلك الفعل المشين من قبل أهل القرية، ولكن أيضاً ما تلا هذا الحادث من تلاسن علني عبر شبكة «الإنترنت»، إذ تبادل «المستخدمون» من الجانبين السب بأقذع الشتائم وأفظع الألفاظ.

بمجرد أن تم نشر خبر عن إساءة معاملة الأمن البحريني لمواطن سعودي، قبل أسابيع، على عدد من المواقع الإلكترونية، حتى تحول الأمر إلى مشاجرة وتنابذ مخز بالألفاظ والصفات السلبية بين المستخدمين من مواطني البلدين، إذ تم الطعن بالأعراض والمس بالكرامة الوطنية، رغم ما يجمع هذين البلدين تحديداً من روابط تاريخية وجغرافية وسياسية واستراتيجية عميقة.

وقد حدث شيء مماثل بين اللبنانيين والسوريين في أعقاب خروج القوات السورية من لبنان في 2005، وكذلك بين المغاربة والجزائريين على خلفية بعض التوترات السياسية، وبين الإماراتيين وبعض الخليجيين أثناء تداعيات الأزمة المالية العالمية على دبي.

ولا يجب بالطبع أن ننسى «أم المعارك»؛ تلك الموقعة الحامية التي اندلعت في نوفمبر من العام الماضي بين مصريين وجزائريين، على خلفية التنافس بين البلدين على بطاقة التأهل لكأس العالم الأخيرة، إذ حفلت المواقع الإلكترونية والمحطات الفضائية بهجمات متبادلة بين مهووسين وأنصاف متعلمين من الجانبين، استبيحت فيها الأعراض والأوطان والمواثيق والمعاهدات والجغرافيا والتاريخ وروابط القومية واللغة والدين.

لعقود طويلة ظلت الحكومات العربية تنخرط في صراعات سياسية مريرة، ويتبادل القادة النقد والسب العلني في الخطب والتصريحات، ويوعزون للكتبة والمعلقين الرسميين بشتم منافسيهم، والمس بهيبتهم، والحط من شأنهم، لكن أحداً لم يكن ليجرؤ على النيل من كرامة البلدان والمواطن العربي الفرد الإنسان.

بات القادة اليوم أكثر حنكة ومداراة، وأبدوا براعة واضحة في كتم الأحقاد، كما ضبط معظم الإعلام الرسمي أدواته في عدد كبير من البلدان، وظل يراوح ضمن خطوط الكياسة واللياقة حتى في أشد أجواء الخصومة، لكن الشعوب خرجت، أو أريد لها أن تخرج، عن السياق، وراحت تعبر عن أحقاد وضغائن متبادلة، وتستبيح ما نعرف جميعاً أنه «من المقدسات».

ثمة مشاعر كثيفة محملة بالاحتقان والضغائن بين بعض أبناء الوطن العربي، تنتظر أي فرصة للتعبير عن ذاتها، وتستفز أحط المشاعر العنصرية لدى الآخر، وتجد الفرصة سانحة أحياناً في الإعلامين التقليدي والجديد.

إنها أحقاد عربية، لا تظهر بين أنظمة زائلة، لكنها تظهر كل يوم وتتكرس بين شعوب باقية وستبقى، وإذا لم تتخذ خطوات سريعة لضبط الفضاء الإلكتروني وتطوير التنظيم الذاتي لوسائل الإعلام التقليدية، فإن المخاطر ستكون أكبر من قدرتنا على الاحتمال.

* كاتب مصري