أعود إلى ذاكرتي الضعيفة أتخبط... كان ذلك في بداية عشرينياتي، وكنت أصرف وقتي ببذخ على مطاردة الصبايا. وفي بهو فندق في القاهرة، قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، توجهت إلى طاولة مجاورة تشغلها فتاتان، إحداهما شقراء تتحدث اللهجة الكويتية، فاتنة فارعة باسقة، وأنا لا أميل إلى «الشقار»، لكنني احترمته يومذاك، واقتربت منها أسألها: «كم عدد أخوتك الشبّان؟»، فدهشت: «ليش؟»، فأطفأت دهشتها، أو لعلي أشعلتها أكثر: «كي أقتلهم وأخطفك. فقط أخبريني كم أحتاج من الطلقات؟». قلت ذلك وأفسحت لها مجالاً للضحك بأعلى دموعها، هي وصويحبتها.

Ad

لحظات وكنت بجانبها في سيارتها الرياضية حديثة الطراز، وصويحبتها خلفنا - ما شاء الله على صاحبتها، فوجودها مثل عدمه. أسميتها (مودموزيل بلاس) أي (زائد) - نبحث عن مقهى لا يزوره الخليجيون، كما طلبت هي، فداعبتُها: «اختطاف؟»، فردّت ضاحكة: «طبعاً. أعطني رقم هاتف أمك كي أخبرها أين تضع الفدية»، قلت أصحح فكرتها: «لن تدفع لك أمي فلساً واحداً، وستحمد الله على اختفائي وانقطاع مصائبي»... تواصل ضحكنا إلى أن استأذنتها: «أكره الأسئلة لكن سؤالاً ثقيلاً أنهكني حمله، وسأرميه عليك؟»، فربّتت على زندها دلالة القوة والعافية: «هات سؤالك»، فرميته عليها: «كويتية وشقراء؟»، فأجابت: «أعرف صديقة كويتية شقراء، ما الغريب في ذلك. عموماً أنا فلسطينية عشت طفولتي وصباي ومراهقتي في الكويت، وابتعثني والدي إلى هنا للدراسة بعد أن اشترى لي بيتاً ستشاهده قريباً». قلت وأنا أجاهد لأعيد حاجبيّ المذهولين إلى مكانهما: «تزاحمت الأسئلة على كتفي، لكنني لن أسمح لها بالعبور». قالت: «هذه المرة دوري أنا... أين تسكن في الكويت؟»، قلت: «الصباحية سقاها الله»، فاستنكرت: «بعييييدة»، فأيّدتها: «صحيح. من هنا بالطائرة نحو ثلاث ساعات»، فاستدركت ضاحكة: «لا. أقصد من منطقة (حولّي)»، ثم أضافت: «وماذا تفعلون في الصباحية؟ لا سينما ولا أسواق ولا مطاعم... ماذا تفعلون هناك؟»، فأخبرتها صادقاً: «نتخانق. فالصباحية ساحة حرب، ينقصها بئر ماء وجبل، كي يلتف أحدنا من خلف الجبل ويحول بين الأعداء والماء».

هرولت الأيام، واعتاد صديقاي اللذان يشاركاني الشقة على مرور «الباسقة» بسيارتها لتصطحبني... إلى أن جاء يوم دعتني فيه إلى عيد ميلادها الذي سيقام في قاعة فندق، وكانت المرة الأولى التي أُدعى فيها إلى عيد ميلاد. سابقاً كنت أُدعى إلى «هوشة»، خناقة، وفي أحسن الأحوال «تمايم»، عقيقة، لكن عيد ميلاد؟ لا. هذه تجربة جديدة... أبرك الساعات.

يومذاك لم أكن أعرف أن الإيتيكيت يأمرك أن تحمل معك هدية إلى صاحب أو صاحبة عيد الميلاد، ففي مناسباتنا لم نكن نحمل معنا شيئاً لصاحب الدعوة... وذهبت إلى الفندق، حيث الاحتفال، وأنا أفكّر في عذرٍ أقدّمه لأبيها أو لأي أحد يسألني عن سبب مجيئي.

ودخلت القاعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا بي أمام جمع من الرجال المهمّين، من الذين نشاهدهم في التلفزيونات والصحف، وحولهم نساء من اللواتي نقرأ تحت صورهن: «حرم فلان»، وكل من يدخل القاعة بعدي يحمل معه علبة، وتبلّمت، وشعرت بألم في بطني، فشاهدت «بنت إبليس» مودموزيل بلاس، فصرخت فيها مستنجداً: «تكفين يا بلاس... الفزعة». فسحبتني من يدي إلى حيث تقف داليا بين الجموع تتلقى علب الهدايا، فشعرت بحرج شديد، فخلعتُ ساعة يدي التي اشتريتها من قيصرية الفحيحيل وقدمتها إليها بدون علبة.

بعد أيام سألتها: «من أنتِ؟ بنت المياردير اليوناني أوناسيس؟» فأجابت: «لا. أنا بنت أحد كبار قياديي منظمة التحرير الفلسطينية، فتح»، فأفلتت مني ضحكة مدوية غطّت على كلماتي: «يا بنت الكلب».