بعد كل ما حدث في العالم العربي ومازال يحدث، اعتقدت أن حكومتنا قد استوعبت الدروس، ومن أهمها درس دور استشراء الفساد في الثورات العربية وزعزعة المجتمعات وسقوط الأنظمة، ولذلك استبشرت خيراً بإعلان الوزير د. محمد العفاسي موافقة الحكومة على إنشاء هيئة لمكافحة الفساد، ولكن تبدد ذلك عندما رفض زميله الوزير المستشار راشد الحماد في لجنة الشؤون التشريعية والقانونية البرلمانية أن يتضمن القانون مادة للكشف عن الذمة المالية لأصحاب الوظائف القيادية، بالإضافة الى نية الحكومة رد القانون إذا تضمن هذا البند، فأيقنت أن السُلطة مازالت تناور وعند موقفها غير الجدي في محاربة الفساد المتمثل في رفضها قانون الذمة المالية منذ عام 1996، إذ إن قانونا أو هيئة لمكافحة الفساد بدون كشف للذمة المالية للقياديين هو جسد بلا روح، وضحك على الذقون بهيئات بلا معنى، لتسكين الموظفين ومكافأة المرضي عنهم بمناصب عليا، ولن تقدم شيئا إلى البلد، فالفساد مبعثه وأساسه يأتي دائما مِمَن يملك النفوذ والقرار، وعندما يستشري في قمة الأجهزة الحكومية يلحقه الصغار في القاع بالرشاوى والتجاوزات، ولذلك تتضمن كل المعاهدات الدولية التي تتناول مكافحة الفساد متلازمة من أدوات مكافحة الفساد المختلفة ومراجعة الذمة المالية للقياديين، لأن بقاء القيادي الفاسد دون اكتشافه وإبعاده لن يمكن المخلصين في محاربة الفساد من إنجاز وظيفتهم ما دام سيكون هو أحد المستهدفين من إتمام تلك المهمة.

Ad

لذلك فإن ترويج الحكومة هيئة لمكافحة الفساد بلا «ذمة مالية» هي دعاية لا أكثر، و»برستيج» أمام الأمم بأننا أكملنا أحد أشكال الدولة الديمقراطية المؤسساتية الصالحة، لكنها في الواقع كيان بلا إنتاج وستكون أمام الدولة إشكالية توصيف مهمته... فما هي تلك المهمة وطبيعتها؟ وهل ستكون بديلاً عن القضاء في تلقي بلاغات الرشاوى التي يحصل عليها الموظفون العامون، أم نسخة عن ديوان المحاسبة تنازعه سلطاته في مراجعة القرارات الإدارية والمالية والعقود الحكومية؟!

المهمة الأساسية لمكافحة الفساد هي تنقية السُلطات الثلاث الدستورية في الدولة من ممارسات التنفع والكسب غير المشروع وسوء استغلال السلطة بغرض الحصول على مصلحة ما، وكلها تتطلب أن تكون كل قيادات تلك السُلطات وما تحتها من مناصب نقية وبعيدة عن الشبهات، من خلال الأداة الأهم وهي كشف الذمة المالية للقياديين، وعند ذلك تكون القدرة على مكافحة الفساد ومحاصرته فعالة ومجدية، فيصبح المقعد الوزاري والكرسي البرلماني والمناصب الهامة في الدولة هدفا للمخلصين وأصحاب المشاريع والرؤى الوطنية المخلصة لبلدهم، بينما يعافها أصحاب مشاريع الاستغلال والنهب والتكسب لخشيتهم الملاحقة والمساءلة، وبدون ذلك فإن ما يروج له من هيئة لمكافحة الفساد وفقاً لما تريده الحكومة، هو أداة لمكافحة الفساد بلا مضمون ولا ذمة!