وحدها... كتاباتنا ستبقى ذاكرة لكل الأجيال اللاحقة، لأنها ستكون شهادة إثبات لماضي مدننا الخليجية المنقلبة تماماً على ماضيها، فبعد قرن من الآن لن يبقى من هوية مدننا الخليجية وذاكرتها إلا ما صور وكتب عنها في الروايات والقصص التي كتبناها.

Ad

مدننا التي تجتاحها رياح التغيير بطاقة أسرع من أن تمكن أهلها من اللحاق بها، ومن ثم استيعابها وهضمها، إذ لن يبقى لأحفادنا من ماضيهم أي نكهة يلجأون إليها حين يفتقدونها، وسيقودهم حنينهم للبحث عنها في صور الماضي وكتاباته... الحنين إلى تلك الأماكن التي لم يعد لها وجود، يعذب الذاكرة، ويجلدها بالشوق إلى روائحها وأصدائها، والعمر الغائب في أرجائها... وكلما امتد العمر إلى الأمام، ازداد الحنين إلى ذاك الماضي المدفون في أمكنة ذاكرة الطفولة... الأمكنة التي تم محوها هي ماضينا وعمرنا، وذاكرتنا التي تم شطبها من تاريخ المكان.

فمثلاً في رواية محمد الأسعد «أصوات الصمت» التي يتذكر فيها شارع فهد السالم في خمسينيات القرن الماضي وكيف كان فيها شكل الشارع وطابعه وهويته وناسه وحياته، ويقارن بها الحالة التي وصل إليها اليوم، وكيف تحول الشارع النخبوي إلى ملتقى للعمالة الآسيوية وللبضائع الشعبية بعدما كان شريان الحياة لأهل البلد؟

وفي المستقبل القريب سوف يتحول إلى شكل آخر وهوية جديدة، بعد انتهاء عمليات إنشاء الأنفاق والجسور، التي ستقفز به إلى مستقبل الحداثة والتطور.

كم من حياة مرت على شارع فهد السالم، وكم من ذاكرة قد طمست فيه؟

ما جرى لشارع فهد السالم، جرى لشوارع وأمكنة كثيرة سواء في الكويت أو في أماكن أخرى من الخليج.

حين كنت في ملتقى الرواية في الشارقة حرصت على الذهاب إلى المكان الذي يقف فيه مجسم شجرة الرولة الذي كتبت عنه الشاعرة صالحة غابش في روايتها «رائحة الزنجبيل» والذي أبدعت في الكتابة عنه، بحيث حرضتني كتابتها على زيارة هذا المكان الذي كانت تقف فيه شجرة غاف عملاقة، استمدت أصالتها من الثلاثمئة عام التي شكلت عمرها قبل أن تهوي بمقصلة التطوير، والتحديث، والتغريب، هذه الشجرة عشقها أهل الشارقة منذ القدم، فجعلوها ملتقى للأفراح ومأوى للأحزان، ومحكمة للقضاء، ومنبرا للشعر، وملهمة للحكايات ومجلسا للقاء الأصدقاء والجيران.

فكأن قطع هذه الشجرة، كان اقتطاعاً لتاريخ وحكايات، وذاكرة غربت المكان عن ذاته. وصف هذا الاقتطاع، يمكن تأويله كمرثية حزينة لما يجري من قشط لذاكرة المكان الخليجي، وخصوصية هويته وتغريبه عن ذاته.

حين نظرت إلى المكان الذي خلدته ذاكرة صالحة غابش شعرت بالحزن لتلك الشجرة العملاقة التي هوت وجرفت معها ذاكرة كل من أحبها، وعاش معها ذكرياته... ولم يبق من أثرها إلا مجسم لا يوحي بشيء، ومجموعات من الآسيويين الذين يحفر لهم هذا المجسم ذاكرة وتاريخاً جديداً في عمر المكان.

ولا عيب في وجود الآسيويين في المكان، ولكن أن تلغى هوية وروح وذاكرة من عاش فيه من أجيال وأجيال عاصرته، ودفنت فيه ذاكرتها وذكرياتها، وألا يتبقى للأجيال القادمة أي علامة أو أي أثر تتعرف به على ماضيها وماضي آبائها وأجدادها.

شيء انتهى... خلاص لن نجد له أي حلول... سكوت... لا تعليق.

ولذا يحق لي أن أكتب أن الأجيال القادمة لن تجد ماضيها إلا في ما كتبناه، وصورناه، وحفظناه لها.