الصحفي ومؤسسته :
 فرس الشطرنج

نشر في 30-11-2010
آخر تحديث 30-11-2010 | 00:01
 خلف الحربي من روائع الشعر العربي بيت يتيم بل سليل دار أيتام يقول:

كأنني فرس الشطرنج ليس له ... في ظل صاحبه ماء ولا علف

يوضح فيه الشاعر ارتهان الإنسان لشخص أكبر منه دون أن يكون مستفيدا من تأجير ذاته لهذا الشخص، تماما مثل فرس الشطرنج الذي يحرم من خاصية الانطلاق الطبيعي التي يتمتع بها أي فرس آخر، فيجبر على السير لخطوات قليلة إلى الأمام، ثم يضطر للسير باتجاه أفقي كي لا يمضي بعيدا إلى الأمام، كما أن فرس الشطرنج ليس مثل الفرس الحقيقي الذي يحظى بالعناية والرعاية، ويجهز مربطه بالماء النظيف والعلف الجيد، بل هو مربوط دون مقابل ولا يحتاج رابطه أكثر من إغلاق علبة الشطرنج عليه، وعلى بقية زملائه.

وبعض الصحفيين في الآونة الأخيرة أصبحوا يرهنون أنفسهم اليوم بأبخس الأثمان– وأحيانا دون ثمن– لخدمة مصالح المؤسسات الإعلامية التي يعملون بها، فهم يعتبرون رواتبهم التي هي حقهم الطبيعي مقابل سبب كاف للخضوع لأجندات ملاك المؤسسة، والإنسان الذي يعتبر راتبه سببا كافيا لتوجيه أفكاره هو إنسان يستعبد نفسه دون معنى، والصحفي الذي يفعل ذلك لا يسيء إلى مهنته النبيلة فحسب، بل يضر بمستقبله كصحفي لأنه يساهم في توقف نموه الطبيعي وتعطيل موهبته، فيصبح حصوله على فرص عمل جيدة مسألة في غاية الصعوبة.

واليوم نشاهد العديد من الصحفيين والمذيعين الذين يؤجرون عقولهم وضمائرهم للمؤسسات الإعلامية التي يعملون بها، فيعرف الناس أنهم ليسوا صحفيين بقدر ما هم أبواق يرددون ما يريد أن يقوله مالك المؤسسة، وأن كل كلمة يكتبونها أو يتفوهون بها ليست صادرة عنهم، بل هي صادرة عن «المعزب» الذي لا يسمح له وضعه «الكبير» بأن يقولها مباشرة.

فرس الشطرنج هذا تكاثر بشكل غير مسبوق في المؤسسات الإعلامية المختلفة خلال السنوات الأخيرة، أصبح هناك المئات من الصحفيين ومقدمي البرامج الجاهزين تماما لأن يصبحوا «فوطة» المؤسسة التي تتولى التعامل مع المناطق القذرة، وهذه الفئة تشكل خطرا حقيقيا على الجسم الإعلامي، وتتلاعب باتجاهات الرأي العام خدمة لأجندات الكبار، وتضرب الحريات الصحفية في مقتل، حيث لا يمكن الحصول على مؤسسة إعلامية مستقلة دون أن يزخر طاقمها بحشد من الصحفيين المستقلين.

إنني أتفهم وجود بعض الصحفيين المنافقين والمتسلقين والمتسولين الذين يبيعون ضمائرهم طمعا في الأموال أو المصالح، فمثل هذا الأمر شائع في كل مهنة وفي كل مكان في العالم، ولكن ما يثير القلق فعلا هو هذا القطيع الكبير الذي ظهر علينا فجأة من أفراس الشطرنج الصغيرة، فهؤلاء الذين وافقوا أن يكون تأجير ضمائرهم الصحفية جزءا من عقد العمل سوف يساهمون لاحقا في جعل هذه الخطيئة سلوكا صحفيا طبيعيا وكل من يرفض القيام به هو شخص يخالف أعراف المهنة.

في إحدى المرات وتحت تأثير بيت الشعر السابق سألت نفسي: لماذا يتحرك فرس الشطرنج على شكل حرف «L « باللغة الإنكليزية؟ فخطر لي أن ذلك ربما يرمز إلى كلمة «لارج» فالخطوات جاءت لتعبر عن كبير يحرك فرس الشطرنج بطرف إصبعه!

* كاتب سعودي

back to top