مرة أخرى، يخطف "أحمد الشقيري" وبرنامجه الرائع "خواطر" الأضواء من الجميع ويقدم مادة متميزة تستحق الاحترام والتقدير والشكر الجزيل، وكما أخذ الدرجة الكاملة عن رحلته الرائعة إلى اليابان العام الماضي، فإنه يستحق هذه الدرجة وزيادة هذا العام، والشكر موصول لكل من ساهم في إنتاج وإخراج وتمويل هذا البرنامج الهادف والممتع، والذي كان عزاءنا الوحيد وسط "الغثاء" الذي يملأ شاشات التلفزيون في كل رمضان!

Ad

فكرة البرنامج مشابهة لفكرة البرنامج في العام الماضي، فالهدف هو المقارنة من أجل التغيير، لكنها هذه المرة بين المسلمين وأنفسهم، بين حالهم في الماضي، حين كانوا الأكثر تحضراً وتمدناً وإبداعاً وإنتاجاً، وحالهم اليوم وهم يقفون موقف المستهلك العاجز الذي يعيش عالة على الآخرين، منتظراً ما ينتجون ليستهلكه دون أن يخطر على باله أنه قادر على الإبداع والتطوير وإضافة الجديد على أي منتج يصل إليه من شعوب كل ما يميزها عنه أن أبناءها يعشقون العمل ولديهم الطموح والرغبة في التفوق، في حين يقبع هو في كسله ونومه العميق وكأنه يرى معجزات لا قبل له بها!

اعتمد الشقيري في حلقاته هذا العام على كتاب مهم مؤلفه كاتب بريطاني اسمه "آدم هارت" فيه شرح مفصل لمئات الاختراعات الإسلامية القديمة وتأثيرها على حياة البشرية حتى اليوم، وهو يستضيفه في معظم حلقات البرنامج ليشرح كيف أثرت اختراعات المسلمين القدماء على حياة الأوروبيين، وقاموا بتطويرها وتحديثها بشكل مستمر، حتى نسي "المستهلكون" العرب والمسلمون أن من ابتكرها علماء من بني جلدتهم ويدينون بدينهم، لكنه الجهل الذي عمّ هذه الأمة فلم تعد تذكر من تاريخها سوى الحروب وقادتها، وفي أي حرب انتصروا وفي أيها هزموا، وكأن أجدادها العظام كان كل همهم قتال الآخرين، وهو أمر غير صحيح، سببه أننا تجاهلنا تاريخ علمائنا الأفذاذ في مناهجنا التعليمية، وركزنا على تاريخ الخلفاء والملوك والغزوات والفتوحات، فتركنا أجمل ما في التاريخ، والشيء الذي يحق لنا أن نفخر به أكثر من غيره، وهو سيرة الفلاسفة والأطباء والعلماء المسلمين، وإنجازاتهم العظيمة التي بقيت حتى اليوم شاهداً على عظمة الحضارة الإسلامية!

الشقيري يركز في برنامجه على حقيقة مفهوم "الإحسان"، حيث يقول: "الإحسان معناه أن تقوم بأي عمل سواء في الدين أم في الدنيا أم في علاقاتك مع الناس بأحسن طريقة ممكنة، وهو سر تقدم الأمة الإسلامية في الماضي، فكان لديهم إحسان في الكيمياء والفيزياء، وفي كل شيء، حتى في اللعب"، ويصر على أن هناك فصلاً كبيراً في فهمنا للدين بين العبادات والمعاملات، بين ما يحث عليه الدين من وصايا من ناحية، وسلوك الناس على أرض الواقع من ناحية أخرى، حيث يهتمون بالشكليات والقشور وما هو بعيد عن لب الدين والغاية التي من أجلها بُعث الأنبياء وأُرسلوا إلى بني الإنسان!

وقد بذل، هو وطاقمه، جهداً كبيراً في تصوير حلقات البرنامج التي تم تصويرها في 9 دول هي سنغافورة، وماليزيا، وتركيا، وإسبانيا، وبريطانيا، والمغرب، ومصر، والسعودية، وأخيراً الإمارات التي اختص إمارة دبي فيها بجانب كبير من الإشادة معتبراً إياها نموذجاً لحسن الإدارة والتنظيم واحترام الإنسان، وقد قدم، بشكل مميز، من خلال تجواله في هذه الدول بعض النماذج الفعالة والجميلة عن الماضي الإسلامي المشرق والجميل.

نصيحتي لكل من لم يتابع البرنامج في حلقاته السابقة، أن يشاهد بقية الحلقات كي يعرف الفارق الشاسع بين فهمنا للإسلام بمعاملاته وأخلاقياته وفهم الأولين له، ومفهوم العلم وكلمة العلماء التي كانت تطلق على الطبيب والمخترع والباحث، في حين اقتصرت الآن على دارسي العلم الشرعي وخريجي المعاهد الدينية، وأن يعرف أن ما بقي شامخاً من كل تاريخنا إنجازات هؤلاء العلماء الأفذاذ الذين عاش معظمهم أجواء الحرية والانفتاح والتحرر الفكري أكثر مما نعيشه الآن عشرات المرات، ولذلك أبدعوا، وأنتجوا، وبهروا العالم في زمنهم الجميل... ولازالوا!

ورسالة "خواطر" لنا، هي أننا نستطيع، نستطيع لأننا فعلنا من قبل، وأن الأمر ليس معجزاً لنا أو لغيرنا، علينا فقط أن نبدأ مما انتهى الآخرون، ونكمل ما بدأه أجدادنا، بالعلم، وبالمعرفة، وبالسلوك الحسن، وبالمعاملة الطيبة بيننا ومع الآخرين، وبالأخلاق الجميلة، والوصايا الرائعة الموجودة في الدين الإسلامي، وبالبعد عن التحجر والانغلاق والجهل والبلادة والصدام مع الآخر، فهي سبب البلاء والتخلف والتأخر الذي نعيشه، وسنظل نعيشه أبد الدهر، ما دمنا نرى أننا بخير، وألف خير، وندعو الله كل يوم ألا يغير علينا!

شكراً أحمد الشقيري... فأنت بحق النموذج الأجمل والأرقى بين كل دعاة الخير والحب والتقدم والتطور والتعايش بين بني الإنسان، ألف تحية لك... ولكل من يسعى لمثل سعيك!