الوجود الإنساني قبل الوجود الديني
تحددت الأطر الاجتماعية والهوية الدينية في المجتمعات القديمة بعد ظهور الديانات التي كانت بديلاً لحفظ النوع أو الكيانات في أحيان كثيرة لسد احتياجاته الوجودية، وحاجاته الاجتماعية لبقاء الإنسان ضمن غيتوهات توفر له بشكل نسبي حاجاته الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، ليشكل من خلالها مجتمعاً ذا ملامح دينية ظاهرية وتختفي عند تعارضها مع مصالحه الخاصة.فكان للوجود الإنساني قبل ظهور الأديان وحقبة تعدد الآلهة قديماً، ضرورة حتمية لعجز العقل البشري عن تفسير الظواهر المدمرة التي كانت تعصف بتلك الأمم والمجتمعات، فتعددت الآلهة تبعاً لتعدد حاجات الإنسان، فلكل من الزراعة والحب والقوة والشمس والقمر والخصوبة... إلخ آلهة خاصة، تبعاً لحاجات التكوين المجتمعي، إما للجهل بتلك الظواهر أو الخوف منها، وإما في مرحلة متقدمة نحو "الكمال" بعد أن تشكل نسبياً الوعي الإنساني بظهور فلاسفة قبل الميلاد. وبدأ انحسار دور الآلهة وتقنن الدور الغيبي والأسطوري في حياة الإنسان وانطلق لممارسة دوره الفعال في تحرير العقل من سباته العميق.
فالكسوف والخسوف ظاهرتان طبيعيتان في النظام الفلكي، فاستدعت هاتان الظاهرتان الفلكيتان الطبيعيتان كثيراً من الطقوس والحركات، فأصبحتا بعد ذلك ضرباً من الجهل بعد اكتشاف العلم أسباب هاتين الظاهرتين، بل وحدد علم الفلك عدد مرات الكسوف والخسوف لسنوات قادمة، فقدت تلك الطقوس والصلوات رونقها وحاجاتها بعد انتصار العقل على الظاهرة، فلم تكن تلك الظواهر وغيرها إلا مدخلاً لولوج العقل البشري ميدان البحث والتقصي لكشف المجهول في العالم المعقول. فباستقرار الإنسان حول الأنهار والبحيرات وتنوع طرق الإنسان في الحفاظ على كيانه الاجتماعي وتدجين الحيوانات النافعة واستغلال الأراضي الزراعية لتوفير الحاجات الخاصة به بدلاً من استهلاكها بفوضوية وإفراط، أصبح للإنسان بعد توافر الحاجات اللازمة والضرورية لبقائه وقت للتفكير والتأمل في هذا الكون، فطرح الأسئلة الوجودية في مرحلة جديدة من مراحل تطور العقل البشري، فكان السبيل لتحقيق أرقى الأفكار نسبياً وأفضلها لتحقيق سعادته، فأبرز من هؤلاء المتأملين، تفكيراً مغايراً للأعراف والتقاليد المتبعة واعتبارها ضرباً من التخلف والاستبداد، فبدأ الإنسان بسبب الصراع بين الاتجاهين المتحرر والرجعي، مرحلة الوجود الديني واستخدامه سلاحاً موجهاً ضد المختلفين، فأخذ منحى شرساً وآخر حضارياً تبعاً لمقاييس ضعف وقوة الوجود الديني. فكان للأسلوب الديني نزعة متباينة مع الآخر في حال الوجود الديني الضعيف، وينزع للتطرف والقسوة في حال القوة، وبين تلك الحال ونقيضتها برز التبرير والتماهي مع المستبد بثقافة تبريرية ذرائعية.الثقافة الذرائعية التبريرية كان لها السبق في محاربة العقلانية وتجريد الإنسان من حقه الكوني في اختياره الحر، لطريقة عيشه ودون كبح لرغباته البشرية الملحة وفق أيديولوجية دينية ابتدعها رجال اللاهوت، وبذلك أخذ يشحن قوته بتأجيج الصراع الديني في رحلة دموية اتخذت في طابعها العام الإقصاء ذريعة لتنفيذ حكم الله على المفسدين بالأرض! فأصبح الدينيون برجماتيين في تغليب المصالح الفردية على القيم التي كانوا ينادون بها، وتشكل بعد ذلك من المصلحين والمخلصين، كردّة فعل على تجاوز رجال الدين لتلك القيم، فكر تنويري يحمل في روحه ثورة قيمية فلسفية جديدة لإبعاد شبح الظلام عن الناس بإبراز دور القيم لا تقديس الشخوص، وكانت للقيم الفكرية الجديدة سطوة وبريق لكل المحرومين والمعذبين بحثاً عن كينونته وكرامته.استعراض بسيط تجده في كثير من الأحيان صورة تتشابه في أحداثه للكثير من الديانات، وبعيداً عن تحديد الديانة المستهدفة، ولكنها نتيجة للاستبداد الديني أو الاستبداد السياسي، فللاستبداد صورة واحدة، وهي غياب الدور البشري في المنظومة الكونية، وهذه المنظومة المتعددة في قيمها الإنسانية تعمل وبشكل رئيسي في تحييد وتقنين دور المستبد بجميع أشكاله وصوره، وتجعله يتساوى مع البقية على اختلاف أديانهم وألوانهم ومشاربهم الفكرية تحت سلطة القانون الوضعي بعد أن عجز الآخرون عن إيجاد البديل لحياة أفضل.