وقفة مراجعة لما يجري حولنا

نشر في 24-03-2011
آخر تحديث 24-03-2011 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري في غمرة كل الأحداث «الثورية» التي مر ويمر بها عالمنا العربي، لم أجد إلا «إصلاحات» الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود بعدما وصلت إليه المملكة العربية السعودية في منحاها التطوري من مرحلة تحولية مهمة، ثم «المشروع الإصلاحي» الذي لن يتوقف مهما حدث لملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة. وكذا مبادرات الملك محمد السادس في المغرب باتجاه الإصلاح والمزيد من الديمقراطية.

تجتاح العالم العربي موجة عارمة من الرغبة الرومانسية في التغيير، دون مراعاة لخصوصية ظروف كل مجتمع عربي على حدة، ولا حتى وجود تصور للبديل على المدى البعيد، وذلك بعد أن تذهب فورة الشباب المحتشد هنا أو هناك، أي بعد أن تذهب «السكرة» وتأتي «الفكرة»!

حقاً ثمة أنظمة عربية مهترئة لا يمكن الدفاع عنها، بسبب «تطويل» رأس النظام، أو بسبب استشراء الفساد في النظام، بأشكاله المختلفة، أو بسبب الفجوة الرهيبة الشاسعة بين نخبة قليلة مترفة وأغلبية ساحقة لا تجد لقمة العيش، أو لاجتماع هذه الأسباب الثلاثة في وضع واحد.

هذه «حالات» مبررة لا يمكن الاعتراض عليها، لكن أن ننساق وراء «الموجة» الشائعة والذائعة ونركض مع الراكضين، فذلك كمن يفقأ عينه بأصبعه، لأنه، ببساطة، يركل المكاسب المحيطة به من أجل مجهول لا نعرف معالمه، وهناك دول لها «أجندات خاصة» تشجع جماهير لها في دول مجاورة أو غير مجاورة على التحرك تحقيقاً لأغراضها ومآربها، بحثاً عن نفوذ مادي أو معنوي، أو الاثنين معاً. وعلينا أن ندرك قوانين الثورات عندما تصل إلى السلطة، من يقوم بالثورة يستحيل أن يتنازل عن السلطة ولو بعد سنين، سواء من صفوف الجيش أو من الهيئة الدينية أو من «الشباب».

وحيث نجحت الثورات الراهنة، فثمة مؤشرات على نشوء دكتاتورية «الثائرين»، بل إنهم بدؤوا يصرحون بذلك جهاراً نهاراً... وقد تصاعدت الدعوات والنداءات المخلصة لتجاوز هدم الثورة إلى «ثورة البناء»، فلا يكفي أن تهدم النظام القديم، وقد نجح فوضويون كُثر من الاتجاهات المختلفة في الهدم، لكن المحك الحقيقي هو البناء، لأنه هدف الثورات الحقيقية ومحك الحكم لها أو عليها. البناء... البناء!

وقد قيل وكُتب عن معظم الحركات في عالمنا العربي «إنها كانت قادرة على هدم ما لا تريد، لكنها عجزت عن بناء ما تريد»، لذلك فقد أخفقت في مسعاها، وهذا يفسر التراجع في أوضاعنا العربية، أو يلقي شيئاً من الضوء عليه.

لا أحد يعترض على الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية، لكن أين هي؟! نعتقد بأمانة أنها لم تنضج بعد... حيث لم تتخلص المجتمعات العربية من الترسبات العصبوية التي ورثتها من التاريخ، ولم يختلقها أحد.

فما سيحدث في الموجة الثورية الراهنة هو أن عصبيات ستحل محل عصبيات، باسم الديمقراطية، التي يتوهمها الغرب وبعض المنظمات الدولية... ببلاهة!

هل ثمة ديمقراطية اليوم في العراق مثلاً؟ فقد مرت ثماني سنوات على تغيير النظام، عن طريق الغزو الأميركي. كانت تحكم العراق، قبل الغزو، ومنذ إنشاء الدولة العراقية، عصبية مذهبية معينة، كانت متسامحة معتدلة في بدايتها، ثم تحولت إلى حكم دكتاتوري بعد الانقلابات «الثورية»، وكانت العصبية الانقلابية الحاكمة تنال الدعم والتأييد من المشاركين- طائفياً- لها في عموم المنطقة.

وبعد الغزو الأميركي، حلت عصبية مضادة وصارت تحكم بأشكال ومظاهر ديمقراطية فقط لا غير! بل إنها لم تقبل الاحتكام إلى صناديق الاقتراع عندما غلبتها قائمة أخرى ذات طابع مدني ووطني، وتتمتع هذه «العصبية» الجديدة الحاكمة بدعم من يمثلها في عموم المنطقة، أيضاً.

وسيستمر ذلك إلى أن «تذوب» العصبيات المترسبة طوعاً أو كرهاً... سلماً أو حرباً... والسؤال هل يمكن تجنب العنف في التاريخ؟

اليوم... نتحدث عن «خيار» ديمقراطي في تركيا، وكيف أن الديمقراطية العلمانية التركية قد أرست تقاليد ديمقراطية في المجتمع التركي، وأن هذه التقاليد سمحت بمجيء الإسلاميين المعتدلين في عملية تداول السلطة.

ولكن هل نعلم كيف بدأت «الديمقراطية» الأتاتوركية بعد سقوط الخلافة العثمانية؟ إن التدقيق في تاريخ تلك الديمقراطية ذات الطابع الغربي، يكشف أنها كانت ديمقراطية «من أجل الشعب... ضد إرادة الشعب!»، حيث لم يُسمح لأي صوت معارض لها بالظهور في مراحلها الأولى... إلى أن ترسخت جذورها في المجتمع التركي، وأصبح العالم لا يتقبل أي فرض، من أي نوع.

هكذا «تتطور» الأوضاع في كثير من المجتمعات، ومن يتحدث عن الديمقراطية اليوم في مجتمعاتنا العربية ويطالب بها، ويبدو مناضلاً من أجلها، فإنما يريد في الواقع أو يقصد «ديمقراطية» عصبيته، أياً كانت!

وثمة مثال كلاسيكي علينا أن نتأمله دائماً، وهو «قبول» النازيين بقيادة هتلر، بالديمقراطية، حتى إذا أوصلتهم إلى البرلمان... انقلبوا عليها... وقادوا ألمانيا- ومعها أوروبا قاطبة- إلى الكارثة! فهل نحن أمام «طريق مسدود»؟ وهل معاناة العنف في التاريخ قدر لا مفر منه؟ كلا... ليست المسألة بمثل هذه الاستحالة لكنها ليست بالسهولة التي نأملها! المتحمسون للثورة، وللتغيير لن يتقبلوها! لكنها الدرب الوحيد لأي تحسن.

لقد ثبت من تجارب التاريخ أن «التطور التدريجي» هو الحل الأنجع على كثرة ما مر بالعالم من ثورات وثمة مقارنة كلاسيكية توردها الكثير من الأبحاث إنها مقارنة التجربة البريطانية بجارتها التجربة الفرنسية.

ففي بريطانيا استطاعت الملكية التي توصلت مع وجهاء مجتمعها إلى ميثاق «الماغنا كارتا»، إلى الأخذ بيد مجتمعها، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، إلى أن ذابت عصبياته الدينية وتكويناته الإقطاعية، وأصبح مجتمعاً برلمانياً حسب ظروفه ومعطياته الخاصة.

أما في فرنسا فقد ظل «الاحتقان» يتزايد، والملكية الفرنسية غارقة في تفاهاتها دون اهتمام بإصلاح نفسها إلى أن اضطر الفرنسيون إلى الثورة، لكنهم اكتشفوا بعد تجارب «ثورية» مُرّة أنه لابد من العودة إلى التدرج وإلى التطور التدريجي إن أرادوا لفرنسا ولأنفسهم حياة أفضل ومستقبلاً أجمل، فقاد فرنسا نخبة من الساسة «التطوريين» الذين فهموا خطورة «الثورة».

وفي غمرة كل الأحداث «الثورية» التي مر ويمر بها عالمنا العربي، لم أجد إلا «إصلاحات» الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود بعدما وصلت إليه المملكة العربية السعودية في منحاها التطوري من مرحلة تحولية مهمة، ثم «المشروع الإصلاحي» الذي لن يتوقف مهما حدث لملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة. وكذا مبادرات الملك محمد السادس في المغرب باتجاه الإصلاح والمزيد من الديمقراطية.

* مفكر من البحرين

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top