«لن تعرف قيمته على حقيقتها إلا بعد جيل أو جيلين ربما... وإذا كان لوثر هو المصلح الأكبر للمسيحية في القرن السادس عشر فإن أركون هو المصلح الأكبر للإسلام في عصرنا الراهن»... هكذا يصف المفكر هاشم صالح الذي تبنى منذ ربع قرن مشروع محمد أركون الفكري «نقد العقل الإسلامي التقليدي» فترجم وشرح وعلّق على أعماله... لقد خاض أركون الأستاذ في جامعة السوربون أكبر المعارك الفكرية منذ خمسين سنة ضد التيار الأصولي الذي ترسخ وانتصر منذ القرن الثالث عشر، وهو الزمن الذي حدث فيه الانغلاق التاريخي الذي مهّد الطريق لدخول عصر الانحطاط... فكانت منهجية أركون العلمية في فهم الحاضر وظواهره تعتمد على «الحفر الأركيولوجي في الأعماق التراثية» (حسب صالح)، والنظر إلى الماضي البعيد ودراسة جذوره بدلاً من الاكتفاء «بملامسته لمساً خفيفاً»... لذلك يرجع أركون سبب خروجنا من التاريخ إلى قطيعتين كبيرتين: الأولى هي الانقطاع عن المرحلة الكلاسيكية المنفتحة للتراث الإسلامي... والقطيعة الثانية هي عن أفضل ما أتت به الحداثة الأوروبية: العقلانية والإنسانية.

Ad

لقد وُجِدت النزعة الإنسانية في المجتمعات الإسلامية قبل ظهورها في أوروبا بحوالي ستة قرون، وهي المرحلة التي يسميها أركون «المرحلة الكلاسيكية المبدعة»، التي بدأت في القرن الثامن وانتهت في القرن الثالث عشر الميلادي، والتي ساهم انفتاحها في رقيها وازدهارها، وكان رواد نهضتها الجاحظ والتوحيدي ومسكويه والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم... لتموت تلك النهضة الإنسانية الإسلامية بموت ابن رشد ومن ثم ابن خلدون في القرن الثالث عشر... ولتعاود النزعة الإنسانية والانفتاح الظهور في القرن التاسع عشر في مصر، من خلال رواد التنوير كرفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين، بسبب الابتعاث إلى أوروبا والاحتكاك بحضارتها... وهي المرحلة التي شبهها أركون بالمرحلة الكلاسيكية... لتنتهي تلك المرحلة بسيطرة «الإخوان المسلمين» في السبعينيات من القرن الماضي بعد فشل المشروع القومي العربي، ولتتجذر الحركات الأصولية الطائفية... ولينقطع الوعي الإسلامي الراهن عن تراثه المتسامح فيجمده ويحنطه، ويستبدله بأصولية متشددة اعتقد الوعي الجمعي أنها أصلها وجوهرها بسبب استفحال «الجهل المؤسس» (على حد وصف أركون)... هذا هو «اللامفكر فيه» أو «المسكوت عنه» الذي كان أركون يحفر أعماق الأعماق للوصول إليه.

رحل محمد أركون «المجدد الأكبر للإسلام في العصر الراهن» (حسب وصف هاشم صالح) تاركاً لنا مشروعه الكبير، فلا خلاص إلا بخوض المعركة الفكرية المضنية التي ستحررنا علمياً لا ايديولوجياً من سجون اللاهوت الطائفي القروسطي.

* * *

ثبت بالدليل القاطع والبرهان الناصع وبما لا يدع مجالاً للشك أن الكويت هي دولة اللاقانون التي تتشدد مع الحريات وتتسامح مع التشدد واللاتسامح في كل الميادين (ضاربة بمواد الدستور عرض الحائط لتصيبه في مقتل)، فاليوم تمنع الكتب وتسحب الجنسية من ياسر الحبيب من خلال قانون الجنسية «غير الدستوري» الذي لا يستند إلى «حكم قضائي» ولا يسمح بـ»الطعن أمام القضاء» (بالرغم من أن التقاضي حق دستوري مكفول)، وهي قضية كما بيّن الأستاذ أحمد الديين في مقاله المفصل «لن تنحصر في حالة ياسر الحبيب وحده، وإنما يمكن أن تمتد وقتما تشاء الحكومة إلى مَنْ تشاء عقابه من المواطنين الكويتيين»، فغداً قد تُسقط الجنسية عن الليبراليين ترضية للمتشددين، لأنهم في نظرهم «علمانيون وكفرة»، وبعد غد عن الشيعة، وبعده عن بعض السنة غير المتفقين مع تيارهم المتشدد، فلا يجوز منحها لغير الحنابلة، وليس لجميع الحنابلة بل مَن يعتبرون أنفسهم من الفرقة الناجية فقط، ولكن السؤال مَن هم الفرقة الناجية، شلة الطبطبائي وهايف؟ يا منجي!