الحرب التي لم تكتمل: الديمقراطية في العراق!
1 - ظننا- كما ظن غيرنا– أن الديمقراطية في العراق بعد 2003، ستكون تحصيل حاصل، وأن الحكم الدكتاتوري السابق ما إن ينهار، حتى تشرق على بغداد شمس الحرية والديمقراطية، التي كانت حلمنا وحلم الأجيال السابقة، ليس في العراق وحده، ولكن في كل أنحاء العالم العربي، وفي أوقات وعصور مختلفة.كان العهد الدكتاتوري قد ألقى في روع العراقيين الخوف من الديمقراطية، وأن الأمن والأمان يتوافران في العهد الدكتاتوري، وهو الكفيل والقادر وحده على تأمين وتثبيت الأمن والأمان، وأن المواطن العراقي لا ينقصه ناقص في حياته غير الأمن والأمان. فبلاده غنية بمياهها، خصبة بأراضيها، ثرية ببترولها، عزيزة بتاريخها، زاخرة بثقافتها، فخورة بحضارتها، فإذا ما ضمنت الأمن والأمان، فقد ضمنت بذلك كل شيء، وللأسف الشديد، فقط اكتشف العراقيون بعد سبع سنوات من انقضاء 2003، أن ما كان يقوله العهد الدكتاتوري، كان صحيحاً، وصادقاً، وواقعياً، والدليل، أن العراقي فقد الأمن والأمان في ربوعه، وعمَّت الفوضى، وانتشر الفساد المالي والإداري، وحلّت (المحاصصة) في معظم مرافق الحياة العراقية محلَّ المواطنة والوطنية، وأصبح العراقي بطائفته ومذهبه الديني، وليس بعراقيته، ووطنيته، وإخلاصه لهذا الوطن، ولا مجال له للعيش في العراق، وممارسة عراقيته ما لم يكن "مُحاصِص" له "حصة" في أحدهم، أو "محاصَص" أي لأحدهم "حصة" فيه. وهكذا أصبح كل عراقي إما "مُحاصِص" أو "مُحاصَص". ولم يعد كل عراقي إما مواطناً وإما وطنياً.
2 - المفكر السياسي العراقي، والمعارض الصخري الصلب سمير الخليل (كنعان مكيّة) صاحب الكتاب الشهير "جمهورية الخوف"، كتب عام 1991 كتيباً صغيراً، على إثر حرب الخليج الثانية 1991 (الحرب لم تكتمل: الديمقراطية في العراق، ومسؤولية التحالف). وكان هذا الكتاب الصغير في حجمه، الكبير في أثره، ورؤاه، استكمالاً لكتابه السابق "جمهورية الخوف"، الذي حلل فيه مكيّة مظاهر الخوف في جمهورية الدكتاتور السابق. واعتُبر هذا الكتاب، الفصل الذي لم يكتمل بعد– وهو لم يكتمل حتى الآن- من فصول "جمهورية الخوف" باعتبار أن الخوف– كما قلنا في البداية– كان لُحمة الجمهورية الصدامية الدكتاتورية، فلم يكن يجبر العراقي على التبول في سرواله قبل 2003، غير ذكر السلطة، أو التفكير فيها، أو رؤية صورتها، وسماع رنينها. ورغم شجاعة مكية في كتابيه السابقين– وهي شجاعة يُحسد عليها– فإن ما يُحسب له في قائمة حسناته، كمفكر ليبرالي ومعارض نظيف، هو شجاعته في دحض الخرافة لدى الآخرين من المفكرين العرب الأقوياء كإدوارد سعيد، ففي هذا الكتاب "الحرب التي لم تكتمل..." لا يتردد من تقريع سعيد على ترديده أن "مصائب العرب هي نتيجة لمؤامرات الغرب، لتحقير العرب والإسلام". وأن أزمة الخليج 1991، كانت أزمة عربية ثقافية. هذا في الوقت الذي كان فيه 99% من "المفكرين" العرب يميناً، ويساراً، ووسطاً، ومن ورائهم قراؤهم مصدقين لما يقوله سعيد، ويصفقون لمقولات أستاذ النقد الأدبي في جامعة كولومبيا الشهيرة والعريقة، وينفخون صدورهم كالطواويس، ويمشون كالزرافات، وهم يشعرون أن جباههم قد لامست السُحب، اعتزازاً بما يقوله سعيد عن الغرب، خصوصاً في كتابه "الاستشراق". فكما أن "عند جُهينة الخبر اليقين"، فكذلك "عند سعيد اليقين الأكيد" في ظن هؤلاء. وتلك هي الأزمة الثقافية الحقيقية، التي عاشها، وما زال يعيشها العرب، من قبلُ ومن بعدُ.3 - سمير الخليل (كنعان مكيّة) المهندس المعماري، ورئيس قسم الشرق الأوسط في جامعة "براندايس" الأميركية، والحامل للجنسية الأميركية، والمتنعِّم بنعيمها، ونعيم العمل الأكاديمي المستقر، كان في غنى كبير، عن كل "وجع الرأس"، الذي أصابه من جراء كتابه الأول "جمهورية الخوف" والكتاب الثاني "الحرب التي لم تكتمل...". وكان يمكن أن يفعل ما فعله آلاف المثقفين العرب في أوروبا وأميركا، فيدسَّ رأسه في الرمال، و"يطنِّش"، ولكن مكيّة، اختار طريق الأشواك، وهو المعارض الصخري الذي التقيتُ به مرة واحدة، ولساعات محدودة، فحُفِرَ في ذاكرتي كنقش الصغر في الحجر، فلم أنسَه، ومازلت أتذكر ملامح وجهه الصارمة، صرامة الحديد في معماره، وأسترجعُ صدى كلماته، التي رددها كثيراً في كتابه "الحرب التي لم تكتمل..." وهي: "لم أعد أحتمل الرائحة الفاسدة (نكبات العرب من مؤامرات الغرب)، التي انتشرت. لذا، آثرت الانفصال عمن لا يهمهم أن يمضوا في الضحك على أنفسهم".وقوله كذلك: "على كل من يهتم بمستقبل هذه البقعة (العالم العربي) أن يحسَّ بالمسؤولية تجاه ذلك. فصدام حسين لم يسقط علينا من المريخ، إنه كابوس من صنع العالم العربي ذاته". وهذان تقريران، واعترافان نادران، في الثقافة والسياسة العربيتين.4 - في كتابه "الحرب التي لم تكتمل..." لا يهمُّ كنعان مكيّة أن يُطلقَ عليه "الخائن"، و"العميل"، و"الجاسوس"، و"الخسيس"، في بحثه الدائم عن الحقيقة، وإعلانه لهذه الحقيقة. كقوله: "العراق بلد يتسم بالتطرف في الخيال، وغالباً ما يختبئ تطرف محتمل في طيّات تطرف جامح ظاهر".وهذه الصورة للعراق هي الصورة القريبة من الصورة التي رسمها الملك فيصل الأول (1883-1933) (أول حكام العراق المعاصر وأعقلهم، كما يصفه مكيّة) والتي يقول فيها، كما ذكرها عالم الاجتماع الفلسطيني/العراقي حنا بطاطو في كتابه المهم ("الطبقات الاجتماعية القديمة والحركة الثورية في العراق"، ص 25-26): "لم يوجد بعد شعب عراقي. هناك كتل بشرية هائلة ليس لديها أي فكرة وطنية، ومتشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينها جامعة، سمّاعة للسوء، ميّالة للفوضى".5 - وبألم شديد، وحسرة موجعة، يقول مكيّة إن نسبة التعليم في العراق اليوم، واحدة من أعلى النسب في العالم الثالث، ومواطنوه ليسوا مجموعات قبلية، تنخر فيها الأمراض، ويفتك بها الفقر، وليسوا عبيداً للإقطاع كما كانوا في عهد فيصل الأول، ومن المعلوم أن الثروة البترولية حسّنت كثيراً من أحوال العراق، ورفعت مستوى الفرد العراقي. ولكن رغم هذا كله، فالعراق اليوم، وبعد سبعين عاماً من عهد فيصل الأول، يعاني أزمات كثيرة، بعضها يلوح– كالطائفية والمحاصصة التي أصبحت من أمراض العالم الثالث– وكأنه مرض مزمن، لا خلاص منه.فما سبب ذلك؟ (وللموضوع صلة).* كاتب أردني