الآن وقد قرر الأميركيون الانسحاب من العراق مكرهين، فإنه لم يعد يختلف اثنان من عقلاء الأمة على أن احتلال العراق واستباحته من قبل الأميركيين وأتباعهم الصهاينة وبطانة الاحتلال التي سهلت لهذه الجريمة المنظمة ضد الإنسانية إنما شكلا خطيئة استراتيجية بالنسبة لكل طرف شارك أو ساهم بأي شكل من الأشكال في هذا الحدث الكارثي، وأن تداعيات ذلك لن تتبين إلا بعد مرور سنوات عديدة أخرى.

Ad

حتى الذين هللوا وطبلوا وزمروا لما سموه «التغيير» باتوا اليوم نادمين على الساعة التي ساهموا أو وافقوا أو سكتوا على ما ارتكب باسم هذه المقولة, بعد أن تبينت لهم سوءات ما فعلوا!

وهذا الكلام إنما نقوله هنا ليس من باب الشماتة في أحد بقدر ما هو نقل بالنص على لسان سياسيين ودبلوماسيين عرب وغير عرب يرددونه على أسماع كل من يلتقي بهم كلما أتى ذكر العراق!

لكن هذا ليس شهادة حسن سلوك لما كان قبل التغيير أبداً بقدر ما هو شهادة إدانة لكل أدوات التغيير الخارجية الغازية والمجرمة أولاً والداخلية المجرمة بحق شعبها والوطن من بطانة الاحتلال التي انتسبت، كما صار معلوماً، إلى كل المذاهب والطوائف والأحزاب والفصائل والنخب من دون استثناء!

ونقول هذا لأننا نريد الكتابة بشكل مختصر اليوم عما يسمى تداعيات الخروج أو الهروب الأميركي المرتقب من العراق، تاركين التفصيل في ذلك إلى فرصة إقليمية وعراقية أفضل.

إن الدخول أو الولوج في أي شيء أو مكان أو قضية ليس كالخروج منه.

إن المحتلين الأميركيين وهم يتحدثون اليوم عن الانسحاب- الجلاء- من العراق تحت ضربات الممانعة والمقاومة العراقية الباسلة إنما يعانون أزمات ومعضلات وتداعيات متتالية ومتداخلة ومتلاحقة سيصعب عليهم النجاة من شرنقتها دون التماس المساعدة من الجوار العراقي المحيط المعادي لهم في الأصل أيا كانت مواقفه المعلنة.

ولعل أهم هذه التداعيات والمعضلات هي:

أولاً: معاناة الأميركيين أزمةَ الفشل في تشكيل قاعدة ارتكاز عراقية حقيقية تشكل المنصة التي أرادوا أن تكون نقطة انطلاق لهم لتغيير العقل العربي بعد أن يكونوا قد أنجزوا حسب افتراضهم الخيالي الساذج, العقل العراقي بما يتناسب مع العقل الأميركي المتوحش.

ثانياً: معاناتهم معضلةَ انعدام الوزن الذي سيكون عليه عراق ما بعد الجلاء أو ما يسمى أحياناً الفراغَ الاستراتيجي الذي ستترك أميركا العراق الجديد فيه بعد كل سنوات الاستباحة والتدمير المنظم لبنية الدولة والمجتمع.

ثالثاً: معاناتهم تداعياتِ عراق متقاتل وممزق ومفتت ومنقسم على نفسه في كل قضية اللهم إلا التشبث بكل حشيش يمكن أن ينقذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى من العراق، وهو هنا لن يكون إلا «الحشيش» المستورد في الغالب من الخارج مما يجعله هو الآخر جزءاً من المشكلة أكثر مما يكون جزءاً من الحل.

لكن هذا ليس كل المشهد العراقي الموعود بعد انسحاب القوات القتالية، بل هو فقط البعد الخاص بالقشرة الظاهرة والسطحية المتحكمة في الصورة الكلية من حيث تحكم النخبة التي ظهرت أو تبلورت أو تشكلت مع مسار حركة الاحتلال، وهي نخبة منبوذة وبائسة وتعيسة لم يعد يثق بها عامة المواطنين العراقيين أيا كان اسم المكون الذي تنتمي إليه أو الشعارات البراقة التي ترفعها.

وبالتالي فإن ثمة وجهاً آخر مشرقاً ونيراً وواعداً ينتظر عراق ما بعد الجلاء الأميركي، يتشكل في الغالب بعيداً عن أعين الرقيب الأميركي وبطانته المتصارعة على فتات المائدة الأميركية.

وهذا الوجه هو ما يخافه الأميركيون وبطانتهم السياسية المتصارعة على المسرح العلني، وهو البعد الأساس والسبب الرئيس ربما وراء حدة الاستقطاب الجارية بين «أجزاء البطانة» نظراً لخوفهم جميعاً مما يسمونه المجهول الذي ينتظر العراق إذا لم يحسنوا توزيع حصص ما تبقى من كعكة الاحتلال.

بكلام آخر ثمة مشروعان في المشهد العراقي يتصارعان بحدة على عراق ما بعد الجلاء الأميركي الحاصل أصلا بالإكراه:

الأول: مشروع يسعى بقوة إلى تأمين استمرار النفوذ الأميركي عبر أدوات الاحتلال من أجزاء البطانة التي تعاونت معه والذي تمثله أطياف أو ما يفضلون تسميته «المكونات» الظاهرة على مسرح العملية السياسية العراقية البائسة.

والثاني: وهو مشروع تأمين استمرار منهج المقاومة الشعبية الظافرة بأشكالها المختلفة ولا سيما تلك القائمة على الوعي والصحوة واليقظة والانتباه من نفوذ واختراق أدوات التشويه والتحريف المستمر لهذه المقاومة بأسماء مستعارة تعود بالأصالة إلى جنس المحتل أو بطانته أيا كانت مظاهرها الخارجية براقة أو جاذبة.

هذا على مستوى الداخل العراقي من التداعيات، أما في ما يخص المشهد الإقليمي، فإن ثمة حقائق أساسية ستفرض نفسها من الآن فصاعداً لا يمكن لأي كان أن يتجاهلها أيا كانت نواياه، ألا وهي:

- لقد شكلت إيران وسورية وتركيا، كلٌ من زاويته، وبمقدار حجم نفوذه على الساحة العراقية ما قبل الغزو لاعبين أساسيين معارضين ومشاكسين ومناكفين للغزو الأميركي وللاحتلال الأجنبي بشكل عام، وقد كان لكل منهم منفردين أحياناً ومجتمعين أحياناً أخرى أجندته الخاصة لعراق ما بعد حكم حزب البعث وصدام حسين، لم يتمكن من تنفيذها على الواقع العراقي، فجاءت أميركا لتزيح عن خاصرتهم ذلك «المشاكس» المجهول، وها قد جاء اليوم دور أولئك الذين فكروا في إزاحته منفردين أو مجتمعين، ولكن هذه المرة لملء ما يسمى بذلك الفراغ.

ومن الطبيعي أن حجم وحصة كل طرف من هذه الأطراف في عراق الغد ستكون بقدر ما استثمر كل واحد منهم في زمن ما قبل الجلاء وأثناءه وما بعده، وهو زمن بدأ عملياً منذ مدة.

- فإيران تريده عراقاً صديقاً لها بالضرورة القصوى وعدواً لأميركا بالضرورة القصوى أيضاً، ولا يمكن أن تسمح له أن يكون منطلقاً لزعزعة أمنها واستقرارها بالضرورة، بل إنها تفضله حليفاً لها إن أمكن في كل معاركها الإقليمية والدولية أو في موقع الحياد الإيجابي كحد ادنى، ولن تقبل أقل من ذلك أبداً.

- وسورية تريده بلداً عربياً قومياً يشكل جزءاً لا يتجزأ من منظومة الممانعة العربية والإقليمية القائمة على ركيزة المقاومة العربية والإسلامية الممتدة من طهران إلى غزة عبر بيروت، التي باتت تشكل دمشق عقدة الوصل الإقليمية الأساسية لها، ما يجعلها تتماهى بشكل أو بآخر مع الأجندة الإيرانية بالمجمل مع بعض التفصيل المتفاوت عن طهران بالشكل، لا في المضمون بالضرورة.

- وتركيا هي الأخرى، ولا سيما بعد التحولات المهمة التي طرأت على نظام حكم العدالة والتنمية بزعامة الطيب أردوغان، لم تعد تقبل بعراق تلعب فيه القوى الدولية بأجندات قد تهدد الأمن القومي التركي سواء عبر عنوان حزب العمال التركي الكردي أو الاختلاف مع الأطلسي والأميركي بشأن النظرة إلى قضية فلسطين أو الصراع المتنامي بين واشنطن وطهران حول حقوق الدول المستقلة والنامية في النووي، أو غير النووي، بينما تبقى هي متفرجة أو شاهد زور على ما يمكن أن يحصل في عراق الغد.

- في المقابل فإن مجموع مَن اعتبروا جزءاً من مشروع «التغيير» الأميركي أو اعتبروا أنفسهم هم جزءاً منه لم يعودوا هم أيضاً يقبلون عراقاً على تفصيلة اللاعب الأميركي، ولا سيما بعد أن أفل نجم هذا اللاعب ليس في العراق فقط، بل على مستوى الإقليم أيضاً.

وعليه فإن واحدة من أهم تداعيات الانسحاب الأميركي الإجباري أو الإكراهي من العراق هو ترك العراق في مهب رياح لاعبين إقليميين أقوياء، ولا سيما إذا ما قورنوا بالعراق الضعيف والمنهك والقلق وغير المستقر كدولة كما هو كمجتمع، وهم إذ يجمعون على شماتتهم في المحتل الأميركي المنكفئ فإنهم لا يرتاحون بالتأكيد لتركة، مهما اختلفت تقديراتهم لهذا الجانب أو ذاك، من «تفصيل البطانة» على امتداد حقبة الاحتلال، بل يفضلون بالتأكيد إعادة صياغته بما يؤسس لمظاهر سلطة عراقية من نوع جديد تناسب المرحلة الجديدة.

وهذا بدوره هو الآخر سيشكل عاملاً إضافياً في استمرار الجدل حول شكل الحكم العراقي المستقبلي باعتبار أن الوجه الواعد من الصورة كما وصفناه أعلاه ثمة من يريد تظهيره اليوم بقوة وبتسارع لافت ليكون هو العمود الفقري في حقبة إدارة مرحلة الهروب الأميركي الإجباري!

ولعل هذه النقطة الأخيرة هي العقدة المميتة في أزمة ما يسمى بتشكيل حكومة ما بعد الانسحاب، ذلك أن الوظيفة الأساسية التي يريدها اقوياء ما بعد الهروب الأميركي من اللاعبين الإقليميين هي إدارة الخروج النهائي للمحتل، بينما يريدها اللاعبون الداخليون من ضعاف ما بعد الانسحاب فرصة لهم لجلد مَن تبقى من منافسيهم أو شركائهم في معادلة المحاصصة الطائفية المقيتة.

* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني