قبل أسبوع جئت شتاء الكويت لاجئاً من شتاء لندن. الحرارة هناك في الجزيرة الإنكليزية، لا تتنازل عن دورتها حول درجة الصفر. كدورة أفعى، تعتصر عظام أحدنا، ناعمة، لزجة، مليئة بالرطوبة. درجة الحرارة هنا في الكويت، تفيض عن حاجتك إلى أكثر من دشداشة. والشمس لا تسمح لجسد أحدنا بأن يتزوّد من البحر حتى برذاذ خاطف. لأن هذا الرذاذ سرعان ما يتبخّر عائداً للبحر مع النورس.
لم أكن متعجّلاً في حملة التعويض عن الخسائر. لأن في كل مكان على هذا الكوكب خسائر محتملة. فالشمس التي ألفظ أحرفها ملء الفم، حتى لتبتل هذه الأحرف بفعل لعاب الرغبة، كان صاحبي الكويتي يلفظها على طرف اللسان، وكأنه يلفظ كلمة نابية. وحين فاجأنا المطر الصبياني صباحاً على الساحل الصاخب، كان صاحبي يُعرّض وجهه، وصدره لقطراته بأناة المتعبّد، في حين وجدتني طائشاً، أبحث عن ملجأ. تساوقاً مع هذه الثنائية في هاجسي، كانت مسألة استجابتي ثنائية هي الأخرى في هذه الزيارة. فأنا ضيف مُدلّل لعائلة كويتية صديقة، طمّعتْني بشتاء رقيق دافئ، رقة ودفء لمستها واحتضانها. وأنا ضيف تحت رعاية مهرجان القرين الثقافي أيضاً. ومن بينهما تخطفني بين حين وآخر أيد فتية إلى أكثر من ركن مُعدّ لحوار للثقافة لا يُمل. في مكتبة، أو في مقهى، أو في صالة لا رائحة فيها للرسميات. وأنا مع هذه الاستضافة الثالثة بالغ الحماس، بالغ الثرثرة، وكأني أستبق نفاد زمن في ساعة الرمل. مزيد من التساؤلات، أهتف، ولا تُعن بالإجابات الجاهزة التي تُبلّد الذهن. ولا أُخفيكم أن هذا الهتاف الذي يخرج من جذر عميق في داخلي، يلاحقني شخصياً، حاراً حتى في النوم. حتى ليُشعرني بأني شجرة تساؤلات تشبه الدغل لكثافتها. هل كنت في ندوة «مكتبة آفاق» دغلاً كثيفاً؟ ربما. فلقد حاورت شبيبة متطلعة، عن ضرورة الارتياب بعافية النفس في تربيتها الثقافية. ضرورة الشك بالنفس، التي تربّت في مناخ ثقافة يعتقد كل منا في أنها فاسدة، أو هزيلة. الارتياب بالنفس لا بالآخر، في قراءة نظريات النقد المترجم بتجريد ورداءة، عن لغة ثقافة «أخرى»، تكاد تكون مجهولة، إن لم تكن غائمة تماماً. الارتياب بالنفس وهي تعانق العقيدة المجردة، العمياء، وكأنها تعانق خلاصها. شعرت في كل حواري بأني كنت كثيفاً، ولكن لستُ غامضاً. لأن تساؤلات الآخر كانت كثيفة، ولم تكن غامضة. ومن يدري كيف سيبدو حواري المقبل في الأيام التالية؟ فأنا في حالة استعداد فطري للحوار. ومن حسن الحظ كنت منشغلاً في قراءة السيرة الذاتية الفكرية الضخمة: «تقرير إلى غريكو»، للروائي اليوناني كازانتزاكي. وصفحاتُه ليست إلا هتافات حارة تخرج من أتون روحي باتجاه المجهول. هتافات ما إن تستقر على هيئة إجابة رضا مرتابة، حتى تنفجر ثانية على هيئة سؤال باتجاه مجهول أبعد، وأكثر غموضاً. يُسائلني صاحبي الكويتي: «ولكن ألا تعتقد أن «زوربا» على هيئة إجابة، لا تساؤل؟ ألم يكن كازانتزاكي قد أبدع زوربا ثمرة مثالية؟» قلت: نعم. ولكن من واقع مُعاش. ثمرة أخلاقية في كيف «تملك القدرة على تحطيم الحواجز كلها»، الحواجز التي يختصرها بالأخلاق، والدين والوطن. «تلك الحواجز التي نصبها الإنسان الجبان التعيس حول نفسه لكي تحيطه بالأمان الكامل عبر حياته البائسة». كما يقول. هذا الأمان هو الذي تمثله حفنة الإجابات، لا التساؤلات. أخرج عادة إلى البحر. الشمس هناك أكثر أُلفة. كورنيش البحر لا مدى له. بالغ الصفاء، والأناقة، والجمال. في انحناءاته الصغيرة عادة ما تجتمع النوارس. بين حين وحين أرى شاباًً مُلتفاً على نفسه فوق منحدر الصخور، يجلس فوق واحدة، وفي مواجهة الموج، والريح، وهدير الأمواج. ظهره إلى المارة. أقف أتأمله دقائق، وقد تمتد، دون أن يحرك ساكناً لتطفّلي. مثل الصخرة التي يجلس عليها. فيه طعم الملوحة. وعليه شيء من صلابتها. ولا يخلو من لمسة تآكل بفعل التعرية.
توابل - ثقافات
انطباع
20-01-2011