جيل «25 يناير» مختلف، ليس فقط لأنه يعرف ما يريد ويذهب إليه، ولكن أيضاً لأنه بدا بريئاً من أمراض النخب والسياسيين وبعض الثوار، فتضحيته اقترنت دائما بإنكار الذات، وصلابته لم تحرمه المرونة، وإيمانه بقضيته لم يغرقه في تخوين المناوئين، وعزمه الذي لا يلين لم يسلمه إلى التصلب، وقوته اليافعة لم تأخذه إلى العنف.

Ad

ليس بمقدوري الآن معرفة كل ما يمكن أن يسجله التاريخ عن «ثورة النور»، التي اندلعت في مصر يوم 25 يناير الماضي، ولم تهدأ جذوتها ساعة حتى حققت أول مطالبها، لكني أعرف أنها أعادت إنتاج كل ما كنت أظن أنني أدركه من معان.

لم يكن كل ما حسبته من «فرح» فرحا، ولم يكن كل ما حفظته من «شعر» شعراً، ولم يكن كل ما اعتبرته «ثورة» ثورة... تغيرت المعاني، وزادت حمولات الكلام.

هكذا أعاد لنا شباب «25 يناير» الشعور بالفرح الوطني الجامع... هكذا أثبت الثوار الشجعان النبلاء أنهم أكثر منا جميعا حكمة ورشدا ومثابرة وجلدا وقوة وعنفوانا وإيمانا بالوطن.

لم يتركوا لنا فضيلة نخص بها أنفسنا، ولم يحرمونا مغنما حققوه بسواعدهم، وبذلوا دماءهم وعرقهم ليجلبوا لنا النصر والفرح.

جيل «ثورة 25 يناير» نبت في حضن المجتمع المصري، ونما وترعرع في ذات السياقين الاجتماعي والسياسي، لكنه امتلك وعياً أكثر نضجاً ومسؤولية، ومعرفة أكثر جرأة وإقداماً، وإصراراً مستديماً، وقدرة على الحشد والتعبئة والعمل الجمعي المنظم غير مسبوقة.

جيل «25 يناير» مختلف، ليس فقط لأنه يعرف ما يريد ويذهب إليه، ولكن أيضاً لأنه بدا بريئاً من أمراض النخب والسياسيين وبعض الثوار، فتضحيته اقترنت دائما بإنكار الذات، وصلابته لم تحرمه المرونة، وإيمانه بقضيته لم يغرقه في تخوين المناوئين، وعزمه الذي لا يلين لم يسلمه إلى التصلب، وقوته اليافعة لم تأخذه إلى العنف.

يقول الأبنودي عن الثوار، قبل مجيئهم بعقود:

«وإذا كنت لوحدي دلوقت

بكرة مع الوقت

حتزور الزنزانة دي أجيال

وأكيد فيه جيل

أوصافه غير نفس الأوصاف

إن شاف يوعى

وإن وعي ما يخاف».

هل كان الأبنودي يعرف أن «جيلاً أوصافه غير نفس الأوصاف» سيطل علينا حقاً، ويقودنا إلى حيث حلمنا وأعيانا الحلم عقوداً طويلة مريرة؟

يقول عنهم أمل دنقل:

«وغداً سوف يولد من يلبس الدرع كاملة،

يوقد النار شاملة،

يطلب الثأر،

يستولد الحق،

من أضلع المستحيل».

هل كان دنقل يعرف أن «غداً سيولد من يستولد الحق من أضلع المستحيل»، ويجلب لنا النصر بدماء زكية وجباه عزيزة، ليضعنا في مصاف الأمم الحرة النبيلة؟

ليتنا امتلكنا يقين «الشاعر»، ولم نمض السنين معذبين بمراوغة الأمل.

لم تمنحنا «ثورة النور» هذا الشعور العارم بالفرح فقط، لكنها أعادت لنا الشعور بالفخر والعزة.

بات كل مصري، داخل ربوع الوطن وخارجها، ليلة السبت، سيداً حراً كريماً.

رفع كل مصري رأسه، ممتلئاً بالكرامة والزهو والكبرياء الشامخة النبيلة.

مصر بلد عريق وحر وقائد، وشعبها أبي وقادر؛ إذ انتفض دافعا الظلم، ونابذا القهر، ومتمردا على الاستكانة والدعة، وآخذاً مصيره بيده، رغم الأهوال والصعاب والحديد والنار.

هذا الشعب ولد ليبقى سيداً حراً، عصياً على الهوان والاستخذاء... وهو لن يفنى أبداً.

هي الفرحة إذن، تعانق الفخر الوطني، فتحلق طاقة جبارة في أجواء الوطن، تبدل المشاعر، وتمحو الأسى، وتجبر الكسور والشروخ والخواطر، وتسلمنا جميعاً إلى لحظة تجل جمعية، تصفو فيها نفوس المصريين، فتراهم يحيون بعضهم بعضا، ويسامحون بعضهم بعضا، ويقدرون بعضهم بعضا، ويتشاركون المستقبل، ويحرصون عليه، ويتأنقون كأنهم يلتقطون «الصورة العائلية» التي ستخلد في ضمير الوطن.

بات المصريون ليلة السبت، كما يحبون أن يكونوا، وكما يأملون أن يكون أبناؤهم، وكما يرجون أن يلقوا الله... شرفاء وأنقياء وشجعاناً وأكابر.

بات المصريون ليلة السبت محط أنظار وإعجاب العرب والعالم... عادوا ليلهموا الآخرين بعد عقود ثلاثة من الخمول والإذعان والتخبط وفقدان الرؤية، عادوا ليحتلوا المكانة اللائقة بهم في مصاف الشعوب الحرة.

ما فات كان صعباً، لكن القادم أصعب.

هل سنبقى موحدين في مواجهة النزعات والنزاعات؟ وهل سنبقى مرابطين في الميدان، لنحرس ما أنجزنا... وما هو آت؟ وهل سنبقى حريصين على ألا نُخترق أو نُستخدم أو نتسرع أو نتهاون أو تأخذنا النشوة إلى غرور وتصلب واستعلاء؟

ما فات كان صعباً، لكن القادم أصعب، يحتاج رشداً ومجالدة وحكمة.

سيتحلى المصريون جميعاً بروح الثورة المتقدة الملهمة العصية على الاندثار، وستعرف مصر طريقها، وستخرج إلى النور.

* كاتب مصري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة