عملية السلام أم السلام الحقيقي؟

نشر في 12-08-2010
آخر تحديث 12-08-2010 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن أي خبير في شؤون الشرق الأوسط يوافق على أن السبيل الأفضل لتحقيق تقدم حقيقي جاد في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية يتلخص في المفاوضات الهادئة من وراء الكواليس، ولا شك أن حجر العثرة الأكبر الذي يحول دون الانتهاء إلى أي نتيجة إيجابية يتمثل في الرأي العام على الجانبين. لاشك أن المحادثات المباشرة بين الزعماء الفلسطينيين والإسرائيليين هي السبيل الأكثر وضوحاً لجلب السلام إلى الشرق الأوسط وإنهاء الصراع، لكن التاريخ أثبت مراراً وتكراراً أن عملية السلام التي تحظى بتغطية إعلامية كبيرة لا تكفي وحدها كوصفة للنجاح.

من المقرر أن يلتقي زعماء جامعة الدول العربية في وقت لاحق من هذا الشهر لتقديم المشورة إلى القيادة الفلسطينية في ما يتصل بالدخول في المحادثات المباشرة مع إسرائيل. وينفي مسؤولون فلسطينيون أي جدوى من إجراء محادثات مباشرة لا تشكل أكثر من فرصة لالتقاط الصور والشهرة ولا يقصد منها سوى خلق انطباع بوجود عملية سلام، وتجنب أي التزامات موضوعية في الوقت نفسه.

فبالنسبة للفلسطينيين، لابد أن تشتمل أول خطوة نحو محادثات سلام حقيقية على اتفاق ما بشأن القضايا الأساسية مثل الحدود والأمن. ولقد قدم الفلسطينيون لنظرائهم الإسرائيليين (عبر المسؤولين الأميركيين) عرضاً مكتوباً يتضمن التخلي عن الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 والتي أصبحت الآن مأهولة بمستوطنين إسرائيليين، على أن تتم مبادلة هذه الأراضي بأراضٍ أخرى مساوية لها في الحجم والأهمية. وحتى الآن لم تصدر إسرائيل وثيقة مكتوبة واحدة تحدد موقفها من الأراضي التي يفترض أن تصبح دولة فلسطينية تقوم إلى جانب إسرائيل.

وتصرّ إسرائيل على أن أي تقدم جاد لن يتسنى إلا بجلوس الجانبين إلى طاولة المفاوضات وجهاً لوجه. وطبقاً لوجهة النظر هذه فإن تحالف نتنياهو اليميني قد يتعرض للضغوط لحمله على قبول استمرار التجميد الجزئي للاستيطان، ولكن هذا لن يحدث إلا إذا تأكد الرأي العام الإسرائيلي أن الرئيس محمود عباس ونتنياهو يشاركان علناً في المفاوضات... بيد أن تاريخ مثل هذه المفاوضات ينبئنا بقصة مختلفة تمام الاختلاف.

إن كل الجهود الناجحة في التعامل مع الصراع في الشرق الأوسط لم تحدث أمام الكاميرات ومن خلال المحادثات المباشرة العلنية. والواقع أن الزيارة التي قام بها الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس، ثم اتفاقية «كامب ديفيد» للسلام التي أعقبت ذلك بين مصر وإسرائيل، لم تتم إلا بعد تفاهمات ناجحة بين الطرفين من وراء الكواليس. ولقد فشلت محادثات مدريد العامة في تحقيق أي تقدم، في حين أسفرت قناة أوسلو الأكثر سرية في التوصل إلى اتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. وحتى بعض الأزمات الأكثر تفجراً على الأرض بين إسرائيل وجيرانها في الشمال لم يتم نزع فتيلها إلا من خلال التفاهمات التي كثيراً ما كانت تشتمل على طرف ثالث محايد.

ويُعَد السيناتور الأميركي السابق جورج ميتشل طرفاً ثالثاً محايداً نسبياً في الإشراف على المحادثات الحالية. والواقع أن «محادثات التقريب» هذه تسمح لميتشل بضمان بذل كل من الطرفين لجهود جادة. وإذا استعضنا عن محادثات التقريب بمحادثات مباشرة، حيث تغيب الولايات المتحدة عن غرفة المفاوضات، فليس هناك ما يضمن عدم قيام الطرف الأقوى بمحاولة الاستئساد على الطرف الأضعف.

كما تشتمل المحادثات المباشرة على نقاط ضعف معروفة، ذلك أن فشل المحادثات المباشرة كثيراً ما أدى إلى ارتفاع حاد في وتيرة العنف. ولا شك أن الجانبين- وبقية العالم- لا يريدان مثل هذه النتيجة.

فعندما حاول الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون الإعداد لقمة «كامب ديفيد» الثانية، كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات متردداً، فقد شعر بأن الموقف لم يكن مناسباً لعقد محادثات مباشرة، وما أثار قلق عرفات كان احتمال الفشل ولعبة تبادل اللوم التي قد تترتب على عجز المفاوضات عن تحقيق الهدف المنشود.

وكان كلينتون، المتورط في مشاكل داخلية، في حاجة ماسة إلى نجاح دولي، لذا فقد أكد لعرفات أن أصابع الاتهام لن توجه إلى الطرف الفلسطيني في حالة فشل المحادثات، لكن بمجرد مغادرة الطرفين لواشنطن بعد انهيار المحادثات سارع كلينتون إلى الانضمام إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود باراك آنذاك، في إلقاء المسؤولية عن الفشل على عاتق الفلسطينيين.

وساعد ذلك الفشل، وردود الأفعال الانفعالية من كلا الجانبين في ما يتصل بما كان من الواجب تقديمه أو عدم تقديمه في إطار المحادثات، في إشعال شرارة العنف التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة الثانية في شتاء عام 2000. ومما يحسب لكلينتون وإدارته أنه قرر على الرغم من أعمال العنف بذل محاولة أخيرة في مدينة طابا المصرية في أواخر فترة ولايته، ويقال إن تلك المحاولة كانت الأقرب إلى تحقيق انفراجة كبيرة بين الطرفين.

وإنه لمن المفيد كثيراً أن تكون تفاهمات طابا، أو الجهود الأقرب عهداً التي بذلها الرئيس عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، أساساً للمحادثات المباشرة. بيد أن حكومة نتنياهو رفضت أي إشارة واضحة من هذا القبيل قبل بدء المحادثات. فالإسرائيليون يريدون محادثات من دون شروط، رغم أن نتنياهو فرض شروطه الخاصة على الفلسطينيين: الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وقبول إنشاء دولة فلسطينية منزوعة السلاح لا تتضمن القدس ووادي الأردن.

إن أي خبير في شؤون الشرق الأوسط يوافق على أن السبيل الأفضل لتحقيق تقدم حقيقي جاد في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية يتلخص في المفاوضات الهادئة من وراء الكواليس. ولا شك أن حجر العثرة الأكبر الذي يحول دون الانتهاء إلى أي نتيجة إيجابية يتمثل في الرأي العام على الجانبين. لذا فكلما كان الرأي العام بعيداً عن المحادثات اليومية كان ذلك أفضل.

بالطبع، لابد من إشراك جمهور الناس في الأمر من خلال الاستفتاء الوطني في تقييم النتائج بمجرد بلوغ المحادثات إلى مرحلة مثمرة والتوصل إلى تسوية شاملة يتقبلها زعيما الجانبين. ولكن إلى أن يأتي هذا اليوم السعيد، أو على الأقل إلى أن يتوصل الجانبان إلى الخطوط العريضة لاتفاق التسوية، فلابد أن ننظر إلى المحادثات المباشرة وفرص التقاط الصور باعتبارها محاولات هدامة. وفي النهاية، لابد أن ندرك أن الفلسطينيين والإسرائيليين أصبحوا غير مهتمين بعملية السلام، فهم يريدون السلام فحسب.

* داوود كتاب، أستاذ في جامعة برينستون سابقا ومؤسس ومدير معهد الإعلام العصري في جامعة القدس في رام الله، وهو ناشط قيادي من أجل حرية الإعلام في الشرق الأوسط.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top