الروح تشهق، لم تبق سوى الكلمة التي هي موجة مقذوفة في الصمت. الكلمة التي هي رماد النسيان حقاً. الشعر ملاذ الحالمين هذا، رسول الرغبة اللامتحققة. من هنا تبدو الكتابة الشعرية أمثولة لائقة لتحقيق الغياب. كل كلمة تحيا موتها مشتعلة كجمرة الأبدية. ومع ذلك ليس الغياب موتاً بالضرورة ربما كان الغياب هو انزياح الموجودات عن أمكنتها، حتى ليبدو المكان ذاته غريباً عن نفسه. الموت شيء آخر إنه الذهاب إلى ما وراء العدم، حيث تنتظرك دوماً هوّة يستحيل عبورها. ليس الموت إذن في ذاكرة الشاعر سوى صمت يعوم في الظلام، في صحراء ليل طويل.

Ad

الفقدان؟ أجل عن هذا يكتب الشاعر منذ العصر الجاهلي حتى بدر شاكر السياب، وهو يصرخ: «هاتوا لي أحبائي». الفقدان أي الغياب الحاضر في الزمن. بهذا المعنى أيضاً يقول أوكتافيو باث: «يتملكني دائماً في منتصف القصيدة شعور بالهجر»، ويبدو لي أن ألم الشاعر الحق يكمن في هذا. إنه كائن مهجور، وحدها الكلمة تظل تحدق فيه حتى النهاية. لكن رغم هذا كله كنتَ أنت ترنو إلى البعيد دائماً، دون ادعاءات دون تنطعْ، لذلك أيضاً لم تترك للخيبة أن تغزو روحك. ولا للزمن أن يخذل إيمانك بضرورة استعادة الفاعلية الثقافية الحقة. في القاهرة في السبعينيات كنتَ قد تحلقتَ مع مجموعة من الشعراء والمثقفين، ينتمون إلى تلك الفترة، أولئك الذين ورثوا انكسارات المشاريع السياسية العربية.

ومنذ الستينيات إلى الآن، مرّت مياه كثيرة تحت الجسر، كما يقال، لكن رغم ذلك، مع ذلك وفوق ذلك لكي استعير لعبة سركون بولص، لم تيأس.

كنتَ نبيلاً ووفياً لفكرة جوهر الجمال لم تكن تبحث عن سلطة ولا مال، ولا عن شمس العلاقات العابرة، كان يكفي أن تكون في الظل، كنتَ ترى أن الظل أكثر ديمومة من ضوء زائف.

في صيف عام 1979 على ما أظن زرنا الأندلس، غرناطة وقرطبة واشبيلية، وكان القطار الذي أخذنا إلى هناك أشبه بأرجوحة الشعر، كانت أحاديثنا تدور حول الشعر والشعراء في العالم، حول الجمال الذي يُشكل روح الكائن ومع ذلك فقد ديستْ قصائدنا بأحذية الجندرمة الإسبانية عندما أوقفونا ذات مرة، امتعضنا أجل، لكن الروح سرعان ما تفيء إلى ظلالها، سرعان ما نسينا قبح تلك الحادثة، وكان الشعر ملاذنا، في ذلك الزمن كان شعر رأسينا أكثر سواداً.

في عُمان سَعيتَ أن ترفد بعض الأحلام الصغيرة بماء روحك، محاولات مهما كانت ضئيلة، قد تبدو مهمة. تشجيعك على الكتابة الجديدة في الشعر والقصة والمسرح. ومنذ بضع سنوات تحلّق حولك الفنانون التشكيليون العمانيون، وكنتَ متابعاً لأعمالهم والكتابة عنها، ثم مشروع الدائرة الذي بدأ بدائرة صغيرة في دورته الأولى، ثم اتسعت الدائرة في ما بعد لتشمل فنانين من أقطار مختلفة في دورتها الثانية. هذه المحاولة لإعادة الاعتبار إلى جمالية الصورة والحركة وربطها بأفق الكتابة الشعرية والقصصية. كانت الدائرة صغيرة في دورتها الأولى، ثم اتسعت في ما بعد لتشمل فنانين من أقطار مختلفة في دورتها الثانية.

لم تترك فعالية وجدتها أصيلة إلا وسعيت إلى المشاركة فيها، ذلك لأنك لا تبحث سوى عن الجوهر، عن ذلك «الأصيل» الضارب في الجذور، الذي تراهن عليه. طبقات عبر طبقات، تراكم عبر تراكم، مهما كان ضئيلاً، ليتشكل الوعي الثقافي، لتورق شجرة المعرفة عبر دأب صبور لكنه صادق. يكفي أن تُثبت تلك النظرة إلى أفق الجمال المفتوح، ويكفي أن يكون هذا الكلام أشبه بالتحية إلى الشاعر والإنسان فيك، أنت الذي لا يبتغي إلا القليل من هذا العالم، أنت الذي لا يرتكن إلا للظل. شعرك، واهتماماتك الثقافية تتعدى الزائل والعابر، ولكي تبحث عن تلك «اللؤلؤة الثمينة» عند الأسلاف، رحت تُنقب في التجربة الصوفية وإشراقات الزّهاد العمانيين، رحت تبحث عن الوشائج الجوهرية في الشعر العماني بين الماضي والحاضر لتختبر تجربة الحنين كأمثولة شعرية تلامس الحاضر والمستقبل معاً.