ضجر
حين بدأت الكتابة عن ذاتي المتخمة بالحنين، هناك في المكتب الذي اخترنا موقعه في ضواحي بيروت، هرباً من أنهار المعادن الثقيلة وزحام قلب المدينة، في هذا المكتب الذي كنت أزوره لساعات يومياً مع بعض الموظفين... بدا لي خلال تأمل الورقة البيضاء، كما لو أنني أزيل إبراً حادة مزروعة في معدتي، كانت توخز مخيلتي منذ أصبحت الكتابة هاجسي اليوميّ. أحمل القلم فأشعر بعطش هائل للتخريب ولارتكاب مجازر بالتخييلات.
سلكت طرقاً خلفية، لتكون الكتابة بعيداً من الضجيج، لاحظت أن العبارات نوع من قصاص في الحياة، نوع من أفراح مفسدة في باطن العقل، هكذا أشعر عندما أنام وأفكر بأحلامي المشلولة. أشعر قبل البدء في تدوين جملة واحدة، ألا شيء أكثر قسوة من مغادرة الجرود النائية نحو المدينة الصاخبة، لا شيء أكثر حماقة من السير في الوديان السحيقة والجبال الوعرة ثم المجيء والمشي على الأرصفة الطويلة المحتلّة من عربات الخضر والسيارات الحديثة بين المباني الصماء العالية والواطئة. هنا في المدينة، أحسست للحظة أن القلق أقوى من أن يجعلني قادراً على تدوين ما أتذكر، بل ما أراه على إيقاع النوم يضيع حين أستيقظ، ما ترسمه الجبال الصخرية والهضاب الشبيهة بالصحراء هناك في البلدة النائية، يأتي طيفه كظلمة دامسة على عينيّ، ربما لأن الزمن نهر النسيان، أو لأننا نقوم بكل شيء ونحن نفكر بالموت، أو ربما لأننا نشتري اليأس ونحن نفتش عن الأمل!! ولأن الكتابة الحقيقية لا تحتمل أن، مثل شجرة تسقط أوراقها، تروي الأشياء الجميلة التي لن تكون أبداً. أكاد أجد نفسي محرجاً وقلقاً حين أبدأ في الكتابة عند الظهيرة أو في أوقات الفراغ، أشعر أن انصياعي لدوام العمل في المكتب كانصياع خروف لسكين الجزار، أو انصياع كافكا لوالده عندما أمره بالسقوط في النهر. أصابعي المتعبة تعجز عن لمس الخيال من خلال الكلمات والحروف، خصوصاً حين تدفعني الورقة البيضاء إلى تذكر الشخص الذي كنته، بل أكاد أشعر بالصعقة لأني لا أقدر على نسيان تفاصيل صغيرة، مع أن ذاكرتي مثل لوح جليد كبير تتحطم مع تدوين أول حرف. تكبر الصعقة حين تكون صور القسوة أكثر وضوحاً في لحظات الفرح والابتهاج، واليأس يدفع العقل إلى التحلل. سأعبر عن أفكاري بالاستعارات والرموز، سأكذب وأقول إني أكتب على الورقة البيضاء على رغم استعمالي الحاسوب منذ زمن، لكن طيف القلم والورقة لا يزالان راسخين في ذهني. سأكتب ربما لأنني لا أعثر على قصة متماسكة في حياتي، وهي بقع متناثرة حلّت على ذلك المسار الذي ترسمه حياة سائر البشر والأشجار والمباني والحيوانات والسرعة والضجيج والتلفزيون. بين أربعة جدران، أتحسس الريح تعصر وجهي وتقتلع الأشجار، والصمت سهام تفقأ عيون الضفادع. عزيزي... سأكلمك عن حياتي، من غير أن تعلم شيئاً عنها، فأنت لن تعرفني أبداً، ولا ضرورة لأن تعرفني، أن المعرفة جهل آخر. سأكلمك عن الخالق وأقنّع كلامي بمزاح الأولاد وألفاظ أليفة وربما نابية، وأقسم ألا أبعثك على الضجر، لكن أعلم في نهاية المطاف أنّ الكتابة هي الكتابة وأن القسوة تولّد السرد اللغوي كما الترف كما العزلة كما السجن. ولا شيء آخر سوى أني أتيت إلى المدينة بحثاً عن معنى الحياة فأدركت معنى السأم المضاعف، بدأت الكتابة لأكتشف قيمة الذكريات ومعانيها المضمرة، لكن ما وجدته هو حبل من السأم حول رقبتي يتسع ويضيق بحسب مزاجي. لأقلها بكل وضوح، حدقت إلى المرآة فلم ألمح وجهي، كأنني بلا ملامح، وعشت في المدينة كأني نسيت اسمي.