في حوار أُجري مع الروائي الحائز جائزة نوبل «جان ماري غوستاف لوكليزيو» أجاب عن سؤال: ألا يحقق المرء نفسه أبداً؟

Ad

«ينتابني شعور خاص، مفاده أني أقترب أكثر فأكثر، الآن إلى ما أرغب في أن أكونه، لكن ربما قد يبدو ذلك برمته مجرد وهم من الأوهام التي تلاحق مرحلة الكبر... إننا من دون ريب، ما أن نبلغ من العمر مبلغا كبيرا حتى نستشعر فيزيولوجيا وذهنيا وذاكراتيا نوعاً من الفتور أنه التراخي الشامل الذي يدفعنا إلى ضرورة الاكتفاء بما وصلنا إليه، وصرناه».

كلام لوكليزيو هذا يبعث فيّ السؤال التالي: هل الكبر بالفعل يؤدي إلى نقص أو ضعف أو نضوب الطاقة الإبداعية، وبالتالي يقود إلى جفاف المصدر الإبداعي الملهم لدى الكاتب الفنان؟

وللإجابة عن هذا السؤال، نجد أن بعض المبدعين الكبار استمروا في الكتابة لأواخر عمرهم، مثل نجيب محفوظ وماركيز وغيرهما، كذلك نجد الشاعر الكبير أدونيس مازال في قمة توهجه، وكذلك المبدع الروائي إدوارد الخراط الذي مازال قلمه يتدفق بموهبته الكبيرة.

وهناك كثير من الكتّاب الذين خبت شعلة نار موهبتهم، وهذا يعني أن الطاقة الفنية تختلف من فنان إلى آخر.

رغم خيانة الجسد لصاحبه فإن العقل والروح الشابة اللذين يتميز بهما الفنان الحقيقي، يُبقيان طاقته في شغبها الطفولي، الجامح إلى المزيد من الاكتشاف المعرفي.

وللوكليزيو رأي آخر في مسألة توقف الكاتب عن الكتابة، فهو يقول في هذا الموضوع: «الكاتب هو من دون شك، كائن موسوم بالنقص أبداً وليس مكتملا بالمرة ومن ثمة يكتب في أفق بلوغ هذه التكملة بالتحديد، ويبحث عن هذا الكمال بكيفية لا ينبغي ألا يطالها التعب، في بعض الأحيان قد يبلغ بعض الكتّاب مرتبة الكمال منذ التجربة الأولى للكتابة، فيتوقف عن الكتابة مثل حال أرتور رامبو، والمكسيكي خوان رولفو مثلاً، هذا بالطبع نادر الوقوع ، لكنه واقع مع ذلك».

هذا ما توصل إليه لوكليزيو ومازالت رحلته في الكتابة مستمرة، وربما يكون له رأي آخر لو أنه توقف في زمن ما عن الكتابة.

ونخلص من ذلك إلى أن الكاتب يتوقف عن الكتابة إما لأنه قد قال كل ما عنده، أو لأنه قد حقق ما يصبو إليه كما قال لوكليزيو، أو في عالمنا العربي الذي يتوقف الكاتب في حال المرض أو وصوله إلى المجد والشهرة وأغراض أخرى، أو انطفاء شعلة الموهبة، أو انصراف الناس عن قراءته.

ومن زمن كتابتي الذي بدأته في عام 1984 وإلى الآن، أي منذ 26 عاما، لاحظت فيها تدرج كتاباتي وتحولاتها الفنية ما بين الشعر والمسرح والرواية والسيرة والبحث والمقالة، التي كلها كُتبت بدافع من الشغف الحاد للمعرفة والفضول الشديد اللذين قادا مسيرتي دائما نحو المغامرة وحب الاكتشاف، وهذا بدوره منحني لذة اللعب فاللعبة الفنية الغامضة هي سر اللهاث خلف النص ومحاولة فض غموضه واقتناصه.

وهو ما مكنني من اكتشاف ألعاب فنية كثيرة، ساعدتني في القبض على أسرار ألعاب المهنة الفنية في الكتابات المختلفة، وهذا التمكن بدوره سلاح ذو حدين، فمن ناحية منحني قوة التمكن من الكتابة، ومن ناحية أخرى قلص عمليات الكشف، فلم يعد هناك الكثير من المستور الذي يثير حاسة الفضول واللعب لدي.

وهذا بدوره انعكس على تلك الطاقة العظيمة التي هي في رأيي المحرك والدافع الحقيقيان للكتابة، ألا وهي الشغف الذي إذا اختفى أو تناقص فستتوقف الكتابة أو تنتهي إلى موتها.