في السنوات الأخيرة بتُّ لا أجد في قراءة ما يُنشَر من شعر طعماً ولا نكهةً! بل لا آنس في نفسي حافزاً أو رغبةً لمواصلة قراءة أيِّ نص شعري، إذ سرعان ما أقلب الصفحة بعد قراءة ثلاثة أو أربعة أسطر لا غير!

Ad

وكنتُ أظن أن ذلك ربما يعود إلى انحراف في المزاج، أو لعله مؤشر إلى ضرورة تغيير غذاء العقل والروح بعد طول ممارسة على المستويين الشخصي والمهني. والانصراف عن الشعر في هذه الحال أشبه بالتريض في الهواء الطلق، والاقتصاد الحكيم للطاقة النفسية والوجدانية.

بيد أن استمرار حال العزوف وتجنب ما يتناثر من نصوص في المجلات والدوريات وما يشبهها، بات أمراً يستحق مكاشفة النفس وبوح القلم. والقول إن الشعر ما عاد شعراً، منذ أن انفلت من عقال التقنين، ومن منطق اللغة، ومن الحس الجمعي للخيال والتصور.

لن نطالب طبعاً بتقييد شعر يومنا هذا بقوانين "عمود الشعر" البائدة، ولن نرتهنه للغة امرئ القيس وخيال المتنبي وصور أبي تمام، بل لا يليق بنا حتى احتذاء ونسخ تجارب السيّاب وحاوي وعبدالصبور، لكن يبقى أضعف الإيمان وهو توافر حد أدنى من التواصل النفسي واللغوي، وإيجاد أرضية مشتركة لمنطق الفن والذوق. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الشعر فن من فنون القول، وأن مادته الأساسية هي اللغة، وأن اللغة هي وسيلة التواصل الإنساني الأكثر ثراءً ورقياً.

ما نشهده اليوم هو حال من الدجل والشعوذة الشعرية، وترديد لتعاويذ لا تعني شيئاً حتى لمُطلِقيها من السَحَرة، الذين أخذتهم نشوة التراسل اللغوي المنسكب في العراء، والمنفلت في متاهات أكثر عرياً. ولعل إيقاع المفردات الملتبسة والتراكيب البهلوانية والاشتقاقات الغرائبية هو ما يسحر منشئيها ويدخلهم في حال من الوهم المرضي بعبقرية لا مثيل لها! والغريب أن هذا الهذيان بات يجد له دفتين من غلاف وورق يتمدد عليهما، أو منبراً متسامقاً يهدر فوقه، أو جائزة سنية تُهدى إليه!

كنتُ أظن أنني الوحيدة التي تتحسس ذلك الخداع، أو ربما يكون لي ذوقي الخاص الذي يُستحسن أن أحتفظ به لنفسي لئلا أُتَّهم بمعاداة التوجهات الشبابية الصاعدة، إلى أن بدأت تقع في يدي يوماً بعد يوم اعترافات أقل ما توصف بأنها "خطيرة" أو "مفجعة"، ومن أصحاب الشأن أنفسهم!

من هذه الأمثلة مقالة اعترافية حول خدعة الشعر بعنوان "في كل جائزة غصة"، نشرت في جريدة "أوان" بتاريخ 5-3-2010، قبل احتجابها، ويمكن العودة إلى العدد من خلال الإنترنت، يقول كاتبها وهو شاعر سوري:

"لايزال المشهد ماثلاً أمامي، حين وقفتُ يومذاك كطاووس أتلقى تهنئة أعضاء لجنة التحكيم ورهط من الكتّاب والشعراء المشرفين على الجائزة... ويا لخيبتي كلما استرجعتُ النص الفائز، ووجدته لوحة كلمات عبثية ليس فيها من الشعر شيء!! عندما أتذكر تلك الحادثة / الجائزة أعجز عن إيجاد سبب شعري واحد يبرر لأولئك الكتّاب والشعراء (الجهابذة) فعلتهم النكراء في منحي الجائزة، وأجدني أميل إلى الاعتقاد أنهم ضلوا سواء السبيل في متاهات النص، فظنوا أن فيه مستوى تأويلياً لم ينكشف لهم، فأُسقِط في أيديهم وكان ما كان! وأنا الآن أعتذر من أي مشارك (احتمالي) في تلك المسابقة حاز نصي أولوية على نصه، وكان هو الأولى بها".

أما الاعتراف الثاني فقد نشر في مجلة "الكويت" عدد أكتوبر 2010 بعنوان "مؤامرة شعرية"! بقلم إبراهيم الخالدي، يقول فيه:

"قررنا أنا وأحمد النبهان حياكة مؤامرة لا تخلو من طرافة، ضد مسؤول قسم الثقافة في إحدى الصحف اليومية! وتتلخص في أن نكتب قصيدة من نوعية (أي كلام يا عبدالسلام)، ونغلفها بغموض لا أساس له، ثم نوقعها باسم نسائي من اختراعنا، ونرسلها إلى صديقنا المثقف العربي لينشرها في صحيفته. وخلال ثلث ساعة كنا أنا وأحمد قد كتبنا عشرين مقطعاً مغرقاً في عالم التحديث السريالي، ومنها مقاطع مثل: (المسامير حذاء المطرقة)، (أطرافي مثقوبة بالخلاص)، (قوس النصر في باريس مائدة إفطار ريفي)، (أتساقط تنبت في أحشائي نخلة)، (طريق الإسفلت لسان كلب يلهث في الظهيرة)... إلخ. كان تسليم الرسالة عصر السبت، وفي صباح الاثنين كانت منشورة في صفحة الزميل تحت زاوية "شعر". وبدأت ردود الفعل تتوالى، إذ تباهى زميلنا أمام بعض الشعراء بأنه اكتشف موهبة نسائية جديدة في الكويت، ومدح شاعر آخر النص أمامي، وأثنى على عمق أفكاره"!!

هذا وللحديث بقية.