تُعتبر معاهدة «ستارت الجديدة» الموقعة بين روسيا والولايات المتحدة، في شهر أبريل الماضي، أساساً لسياسة «إعادة ضبط» العلاقات التي تعتمدها إدارة أوباما لتجديد التواصل مع موسكو، ووفقاً لنسخة البيت الأبيض عن هذه السياسة، لقد طورت الولايات المتحدة وروسيا شراكة حقيقيّة، ويسعى المعنيون إلى إقناعنا بحقيقة ذلك من خلال خطوات عدة تتمثل بتوقيع معاهدة «ستارت الجديدة»، فضلاً عن موقف روسيا الداعم لعقوبات الأمم المتحدة على إيران، وإلغاء عمليات بيع أنظمة صواريخ «س-300» إلى آيات الله، وعقد اتفاق يقضي بنقل القوات العسكرية والإمدادات إلى أفغانستان عن طريق الأراضي والأجواء الروسية. لا شك أن المواقف الروسية تجاه سياسة إيران هي خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن إذا ما أمعنا النظر في العلاقة الثنائية الجوانب، سنكتشف أن ثمن هذا التعاون كان مرتفعاً، كما أن تأثير التنازلات التي وافقت عليها إدارة أوباما كان واسع النطاق.
في ما يخص معاهدة «ستارت الجديدة»، وافقت واشنطن على رسم حدود لخياراتها الدفاعية، وتحديداً على مستوى الصواريخ البالستية (وهو أمر ينكره ممثلو الإدارة بشدة)، ويسود خطاب غامض في ما يتعلق بالصواريخ البالستية المتحركة، كما فُرضت شروط مبهمة على أنظمة الضربات الصاروخية العالمية التقليدية، ولوحظ تراجع مهم في نظام التحقق من تطبيق معاهدة «ستارت» منذ عام 1991. تؤدي جميع هذه التدابير إلى الحد من الخيارات الأميركية الدفاعية، ليس تجاه روسيا، بل في وجه كوريا الشمالية والصين، وإيران مستقبلاً، ما يمنح قوات الصواريخ الاستراتيجية التابعة للاتحاد الروسي تفوقاً غير عادل.فضلاً عن ذلك، تشير مقدمة المعاهدة، والموقف الروسي الأحادي الجانب بشأن نظام الدفاع الصاروخي، وملاحظات كبار المسؤولين الروس، إلى محاولة تقوم بها روسيا لتقويض أو الحد من الإمكانات الدفاعية الصاروخية للولايات المتحدة، راهناً ومستقبلاً، من خلال التهديد بالانسحاب من المعاهدة في حال توسعت الولايات المتحدة في تطوير دفاعاتها الصاروخية «كمياً» أو «نوعياً». على ما يبدو، سيتوقف تحديد هذه المعايير الكمية والنوعية على روسيا، ما سيُجبر صانعي القرار الأميركيين على التشاور مع موسكو في كل موقف يستلزم اتخاذ قرار مهم بشأن نظام الدفاع الصاروخي.في وضعٍ مشابه، على نحوٍ مخيف، بالجدالات التي قامت بين ريغان وغورباتشيف في موضوع «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» في منتصف الثمانينيات، يقوم الروس الآن بالضغط بهدف رسم حدود لبرامج الدفاع الصاروخي الأميركي. تُعتبر هذه الضوابط أساسية بالنسبة إلى موسكو- التي لاتزال متأخرة على المستوى التكنولوجي ولا تريد إنفاق عشرات مليارات الدولارات على نظام مماثل وسط الإصلاحات العسكرية المكلفة والمثيرة للجدل التي تشهدها- لدرجة أنها تهدد بالانسحاب من المعاهدة في حال عدم تنفيذ هذه الشروط.لا شك أن جدول أعمال البيت الأبيض لم يحصل على إجماع الأطراف كافة، ما هدد قدرة الإدارة الأميركية على التشاور وتأمين الإجماع لإقرار معاهدة «ستارت الجديدة» في مجلس الشيوخ. يُعتبر التاريخ التشريعي لمعاهدة «ستارت الجديدة» متخبطاً أصلاً، ولم يُبْدِ عدد من أعضاء مجلس الشيوخ أي حماس بشأن إقرارها. حين صوتت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ على طرح المعاهدة للتشاور وتحقيق إجماع بشأنها من جانب جميع أعضاء المجلس في شهر سبتمبر الماضي، تحدثت اللجنة عن واقع أن الولايات المتحدة لا تعتبر معاهدة «ستارت الجديدة» شروطاً مفروضة على أنظمة الدفاع الصاروخي المتمثلة بسلاح «الضربة العالمية الفورية» (Prompt Global Strike)، وأن المعاهدة تشمل الصواريخ البالستية المتحركة بموجب الشروط التي تطرحها.لا شك أن هذه الشروط الواردة في قرار المصادقة على معاهدة «ستارت الجديدة» أسعدت الروس، فقد اقترح كونستانتين كوساشيف، رئيس لجنة الشؤون الدولية في البرلمان الروسي، والموالي للحكومة الروسية، في 29 أكتوبر، أن تعيد لجنته النظر في موقفها السابق الداعم للمصادقة على المعاهدة.في وقتٍ سابق من هذا الشهر، قررت لجنة الشؤون الدولية في البرلمان الروسي تأخير النظر في التشريع الذي يمنح الإذن بالتصديق على معاهدة «ستارت الجديدة» من جميع أعضاء البرلمان. وفقاً لأهم المحللين الروس، لا توازي هذه الخطوة التي اتُّخذت من دون إجراء تصويت رسمي إلغاء دعم اللجنة للمعاهدة السابقة. لكن ما يوازي ذلك على الجانب الأميركي سيكون طلب لجنة العلاقات الخارجية أن يعلق مجلس الشيوخ كاملاً جميع خطواته في هذا الاتجاه. بالنسبة إلى مجلس الشيوخ الأميركي، يثير قرار لجنة البرلمان الروسي بتأخير المصادقة على المعاهدة أسئلة عدة على إدارة أوباما الإجابة عنها قبل أن ينظر المجلس في المعاهدة.في هذا السياق، يقول كوساشيف: «أولاً، لابد من التشديد على أن [أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي يدركون أن] أنظمة الأسلحة غير النووية والاستراتيجية المدى لا تندرج في إطار هذه المعاهدة، ولكن يستحيل عملياً أن نعرف ما إذا كان أحد الصواريخ التي تم إطلاقها يحمل رأساً صاروخياً نووياً أو غير نووي».أما الواقعة الثانية، فهي تفترض أن «الأميركيين يحاولون تطبيق معاهدة (ستارت الجديدة) على الصواريخ البالستية العابرة للقارات في حال تصنيعها»، بحسب قول كوساشيف. هذا الأمر صحيح. بحسب جدول الوقائع الذي أعدته وزارة الخارجية الأميركية بشأن راجمات الصواريخ البالستية العابرة للقارات والصواريخ نفسها، ستخضع الصواريخ المتحركة والراجمات لأحكام المعاهدة في حال أقدم أحد فرقاء المعاهدة على تطوير أنظمة مماثلة واستعمالها.أخيراً، صرح كوساشيف بأن «... [أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي] يقولون في الوقت عينه أن معاهدة (ستارت الجديدة) لن تحد، بأي شكل، من جهود البنتاغون الهادفة إلى نشر الأنظمة الدفاعية الصاروخية».في المجمل، يرى عدد من الخبراء أن المعاهدة ستنعكس سلباً على الولايات المتحدة، إذ إن مقاربتها في ما يخص الدفاع الصاروخي خاطئة. وفي نهاية المطاف، ستؤدي هذه المقاربة أيضاً إلى تحسين موقع روسيا على مستوى ميزان القوى النووية، كمياً ونوعياً. تشكل الشفافية العنصر الرئيسي لتحديد موقف دقيق من معاهدة «ستارت الجديدة». وانطلاقاً من الاعتراضات والتدابير المتبعة من الجانب الروسي، من الضروري بالنسبة إلى مجلس الشيوخ أن يعلم بنوع الاتفاقات التي عُقدت وراء الكواليس بشأن الدفاع الصاروخي، و»الضربة العالمية الفورية»، والصواريخ التي تتخذ السكك الحديدية قاعدة لها، وذلك بهدف كسب الموافقة الروسية على معاهدة «ستارت الجديدة». على سبيل المثال، ما كانت التنازلات التي لم يتمّ الإفصاح عنها أمام مجلس الشيوخ، بما في ذلك تلك المتعلقة بالدفاع الصاروخي؟ قد يشك البرلمان الروسي (والحكومة الروسية) في أن الإدارة الأميركية غير قادرة على تنفيذ الوعود التي قد يكون المفاوضون أطلقوها سراً. لهذا السبب، من الضروري أن يراجع أعضاء مجلس الشيوخ سجلات المفاوضات.فضلاً عن جميع هذه المعطيات، انتهت ولاية مجلس الشيوخ الراهن وسينضم إليه ستة أعضاء جمهوريين إضافيين، وفي حال لم يصادق مجلس الشيوخ المنتهية ولايته على المعاهدة قبل حلول العام الجديد، ستصبح المصادقة عليها أصعب في السنة المقبلة حين يبدأ مجلس الشيوخ الجديد عمله. أخبرني أحد كبار المسؤولين في لجنة العلاقات الخارجية أن جدول أعمال مجلس الشيوخ المنتهية ولايته يفيض بالمشاريع، وقد لا يجد وقتاً كافياً للمصادقة على المعاهدة قبل نهاية هذا العام. وبحلول شهر يناير، ستتغير تركيبة لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وسيُعاد طرح المعاهدة أمام اللجنة، ما يستدعي جولة جديدة من جلسات الاستماع والمداولات. باختصار، يبقى احتمال تمرير المعاهدة في الكونغرس المقبل أصغر مما هو عليه راهناً.أما الإشكالية الأكبر، فهي تكمن في المنطق الضمني الذي تعتمده الإدارة الأميركية للتعامل مع معاهدة «ستارت الجديدة». إنها المعاهدة الأولى الخاصة بالحد من الأسلحة في إطار رؤية أوباما الهادفة إلى العيش في عالم يخلو من الأسلحة النووية، كما أعلن الرئيس بشكل متكرر في شهر أبريل من عام 2009، في براغ، وفي خطاباته أمام الأمم المتحدة. بكل ببساطة، هذه السياسة غير واقعية، فضلاً عن ذلك، يوجد احتمال كبير في أن تقوم المملكة العربية السعودية ومصر وربما تركيا بتطوير أسلحتها النووية الخاصة في حال سمح أوباما لإيران باكتساب إمكانات نووية.لا تشارك القيادات الوطنية في روسيا، والصين، والهند، وباكستان، وكوريا الشمالية، وإيران، وَهْم «العالم الخالي من الأسلحة النووية» الذي يحلم به أوباما. لقد حضرتُ اجتماعاً سخر فيه فلاديمير بوتين من فكرة العيش في عالم يخلو من الأسلحة النووية، فقال: «سنبذل كلّ ما بوسعنا لحماية أمن بلدنا». وتحرص روسيا على تنفيذ أوامر بوتين كالعادة، لذا قامت بتحديث صواريخها البالستية العابرة للقارات والترسانة الصاروخية التي تُطلَق من الغواصات، ويبدو أنّ الصين تسير على الخطى نفسها.بسبب حماس الإدارة الأميركية تجاه إقرار معاهدة «ستارت» الجديدة وطموحها إلى العيش في عالم يخلو من الأسلحة النووية، تسير الولايات المتّحدة في الاتجاه الخاطئ. يجب ألا يسمح الكونغرس بحصول ذلك.Ariel Cohen
مقالات
رسالة إلى المتوهِّم بانتهاء الحقبة النووية
16-11-2010