هل تذكر محمد الدرة؟
في 30 سبتمبر 2000، كان محمد جمال الدرة، الطفل الفلسطيني، متوجهاً مع أبيه إلى شارع صلاح الدين في منطقة تقع بين نتساريم وغزة في الأراضي الفلسطينية، حيث كانت القوات الإسرائيلية تتبادل إطلاق النار مع فلسطينيين.حاول الأب الاحتماء مع ابنه خلف برميل على جانب الطريق، كما سعى إلى إخبار مطلقي النيران من الإسرائيليين بضرورة التوقف، لكن إطلاق النار استمر، وأصاب الأب في مناطق متفرقة من جسده، وقُتل الطفل محمد، بعدما فشل أبوه في حماية جسده أو إقناع مطلقي النار بالتوقف.لاشك في أنك تتذكر محمد الدرة جيداً؛ فقد كان مشهد إطلاق النار عليه وعلى والده مشهداً حياً نقلته كاميرا وكالة الأنباء الفرنسية إلى العالم أجمع. وقد جرت تحقيقات عديدة لمعرفة مصدر إطلاق النيران التي استهدفت الدرة الأب والابن، كما واجه المصور الذي سجل الحدث بكاميرته طوفاناً من الاتهامات من جهة، والتكريم والجوائز من جهة أخرى، وتعرضت الوكالة الفرنسية لتهديدات، لكن التحقيقات أكدت أن مصدر النيران كان من الجانب الإسرائيلي.ليست حادثة مقتل الدرة هي الأكثر دموية ومأساوية على أي حال بين الأحداث التي تقع للأطفال ضحايا النزاعات المسلحة، لكنها سجلت أثراً فارقاً، وربما تكون قد استطاعت إحداث تغيير ملموس في الرأي العام العالمي حيال القضية الفلسطينية. إنها براعة التقاط مشهد القتل، ونفاذ الإعلام وسطوته.في 8 أبريل 1970، قصفت طائرات «الفانتوم» الإسرائيلية مدرسة ابتدائية مشتركة في محافظة الشرقية بدلتا مصر، أثناء ما عُرف آنذاك بحرب الاستنزاف التي اندلعت بين الدولتين في أعقاب حرب 1967. وقد نجم عن هذا القصف مقتل نحو 30 طفلاً مصرياً أثناء تلقيهم دروسهم في المدرسة، حيث غمر الدم الأحبار والدفاتر والملابس المدرسية وأجساد الضحايا، في ما عرفت بمجزرة «بحر البقر»، نسبة إلى اسم المدرسة.وفي 18 أبريل 1996، شنت إسرائيل أيضاً هجوم قانا الأول على مركز قيادة فيجي التابع لقوات «اليونيفيل» بجنوب لبنان، حيث قُتل 106 مدنيين من بينهم أطفال. وفي 30 يوليو 2006، قُتل 27 طفلاً، بين 55 قتيلاً، سقطوا في هجوم قانا الثاني أثناء حرب «تموز» الإسرائيلية على لبنان.ورغم بشاعة الهجمات في قانا و»بحر البقر»، فإن مشهد قتل طفل بعينه، وتصوير لحظات القتل نفسها كما حدث مع الدرة كان له أثر أكبر وتداعيات أهم.يظل مشهد قتل الأطفال أو الاعتداء عليهم في خضم نزاع مسلح علامة فارقة في التعاطي الإعلامي والمخيلة الإنسانية، وقد يكون تأثير مشهد واحد من ضمن تلك المشاهد أكبر أثراً وأشد نفاذاً من عشرات المشاهد الأخرى.يظل الأطفال أضعف حلقة من حلقات النزاعات المسلحة حول العالم، ولذلك فإن تسليط أضواء الإعلام عليهم خلال تلك النزاعات، يسهم في إحداث تحولات نوعية في الرأي العام العالمي، وبالتالي يعيد ترتيب أوراق القوى المتنازعة ويغير حظوظها.لا تقتصر الأثمان التي يدفعها الأطفال في النزاعات المسلحة على التعرض المباشر لآلات القتل والتشريد والتعذيب والاغتصاب، لكنهم أيضاً يستخدمون كفزاعات أو دروع بشرية أو برامج تسويق ودعاية وعلاقات عامة لأفكار بعض الجماعات المتنازعة، وأخيراً فهم باتوا يقودون التظاهرات، ويرددون الهتافات المطالبة برحيل القادة «المستبدين»، أو الدافعة إلى الموت و»الاستشهاد» من أجل مواقف أو أفكار سياسية ودينية محددة.على هامش الثورات والاحتجاجات العربية النبيلة التي تتلاحق في المنطقة راهناً، تنشأ أنماط استخدام مؤذية للأطفال في التظاهرات والاحتجاجات والاشتباكات، وهي أنماط لها آثار سلبية عميقة، رغم الإقرار بنبل المقاصد التي تقف وراءها في أغلب الأحيان.يستخدم بعض الناشطين والقوى والجماعات السياسية أطفالاً لتعزيز مواقفهم ومطالبهم السياسية، فيحملونهم للهتاف في التظاهرات، أو يلبسونهم ملابس تحمل شعارات سياسية، أو يستخدمونهم كدروع بشرية في بعض الأحيان، وفي شن هجمات انتحارية أو التلويح بها في أحيان أخرى.في الأحداث التي شهدتها مصر اعتبارا من 25 يناير 2011، لوحظ استخدام الأطفال على نطاق واسع في التظاهرات وحمل الشعارات والهتافات، وقد عرضت وسائل الإعلام المختلفة صوراً كثيرة لأطفال طالبوا برحيل الرئيس المصري السابق حسني مبارك أو هتفوا ضده، أو العكس. الأمر ذاته تكرر في اليمن وسورية وليبيا على نطاق واسع.وفي بعض الاحتفالات الدينية التي تنقلها الكاميرات لطوائف دينية في عدد من البلدان مثل لبنان والعراق وإيران، يلاحظ بوضوح استخدام الأطفال في الترويج لشعارات دينية وسياسية؛ بعضها يحض أحياناً على «الاستشهاد».وفي أفغانستان وباكستان والسودان وغيرها تستخدم بعض الجماعات الدينية الراديكالية وبعض القوى القبلية، وأحياناً الحكومة، الأطفال في ترويج شعارات تتعلق بالاستشهاد أو شن الهجمات الانتحارية أو التعبير عن مواقف سياسية محددة.يجب عدم الإفراط في عرض مشاهد الأطفال الذين يتعرضون للقتل والإصابة والانتهاكات أثناء تغطية النزاعات المسلحة، إلا إذا كان عرض تلك المشاهد ضرورة من ضرورات المصلحة العامة، أو ركناً أساسياً من أركان الإحاطة بالحقائق، أو وسيلة رئيسية لإنصاف أحد أطراف التغطية. وفي كل الأحوال لا يُحض على تكرار عرض تلك المشاهد خارج سياقها الإخباري، أو ضمن «البروموهات» الترويجية، إلا إذا تم ذلك في سياق متوازن، وبهدف ينزع نحو المقاربة المحايدة، وبعد تنبيه المشاهدين إلى صعوبة ما سيلاقيه بعضهم من جراء مشاهدة تلك المناظر.ورغم الإقرار بأن صورة طفل في السابعة يقود تظاهرة، أو يحمل سلاحاً نارياً ويمتطي آلية عسكرية، هي صورة اخاذة من الناحية المهنية، فإن الإعلاميين مدعوون إلى موازنة الاعتبارات الأخلاقية مع تلك المهنية، بحيث لا تتحول مثل تلك الصور عبر تكرار بثها والتركيز عليها إلى وسيلة لتحريض أطفال آخرين على الانخراط في النزاع أو التظاهر، أو الترويج لموقف سياسي معين، أو التغطية على أحد أطراف النزاع. وفي كل الأحوال سيكون من المهم محاولة الحصول على إجابات من نوع: من الطفل؟ ولماذا انضم إلى ذلك الجانب أو ذاك؟ وهل يسمح له ذووه فعلاً بالانخراط في القتال أو الاحتجاجات؟ وكيف يردون على الانتقادات التي تعتبر أن ذلك استخداماً مسيئاً للأطفال وتوريطاً لهم في نزاعات ليس لديهم يد أو رأي فيها، بحكم عدم وصولهم إلى سن النضج.الثورات العربية تشكل ربيعاً اخاذاً يدفع إلى الإحساس بالعزة والبهجة والأمل في مستقبل يشعر فيه المواطن العربي بالحرية والكرامة، لذلك، فمن الضروري ألا تنطوي على أي ممارسة تنتهك تلك القيم النبيلة.* كاتب مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
الإعلام وأطفال الثورات العربية
29-05-2011