قادة جدد لأجيال جديدة
ما يجري في مصر منذ يوم 25 يناير حتى هذه الساعة يؤكد أن تغييراً فارقاً قد طرأ على الشعب المصري، وأن هذا التغيير ليس له صلة فقط بدرجة الفساد والقمع وتردي الكفاءة التي يعانيها هذا الشعب، ولكنه يتصل أيضا بتغير عميق في منظومة القيم السياسية التي يتبناها، ووسائل التواصل التي يستخدمها، والمفاهيم المستقرة الراسخة في وعيه عن السلطة والحكم والإدارة العامة وحقوق المواطن... وأخيراً حدود قدرة السلطة على ممارسة العنف.ما يجري في مصر على مدى الأيام الستة الأخيرة يعكس تشكل جيل جديد بسمات فكرية وثقافية وسياسية ومنظومة قيم مختلفة تماماً عن الأجيال السابقة عليه.
هذا الجيل لم يستخلص معارفه من استعراض متأن لأحداث التاريخ، ولا تنظيرات مفكري السياسة، ولم يشغل باله بثوابت الدولة المصرية، ومكانة «الفرعون الإله» على رأسها، وحدود الفعل الشعبي في ظل دولة ذات نمط إنتاج يعتمد على الزراعة عبر تنظيم الري.هذا الجيل ينتمي إلى الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة، ويستخدم «الإنترنت» بكثافة، ويدخل على شبكات التواصل الاجتماعية، ويتبادل الأفكار والرؤى والأخبار والصور عبر «قناة ثانية» لا يستخدمها الآخرون، ويستخدم لغة اخترعها وطورها بنفسه، وباتت كل يوم تحفل بجديد.هذا الجيل لم يشغل نفسه كثيراً بدور المؤسسة الأمنية في التحكم بالعمل السياسي والنشاط الاجتماعي في البلاد، ولم يسعفه الوقت ليعلم الكثير عن دور مؤسسة الجيش في الحكم، ومعنى الحاكم العسكري، ومغزى «حظر التجول» والفرق بين تسليح الشرطة وتسليح القوات المسلحة، لكنه يعرف أدق تفاصيل ما جرى في تونس.هذا الجيل لا يتواصل مع أجداده الذين عايشوا حركة الجيش في 1952، ولا آبائه الذين انتشوا بالانتصار على إسرائيل في 1973، ولا يتفهم هواجس أخوته الأكبر سناً من سطوة الأمن على السياسة في البلاد، لكنه يعرف تماماً كيف نزل المتظاهرون التونسيون إلى الشوارع فأطاحوا بالرئيس زين العابدين بن علي في أقل من شهر.هذا الجيل لا يعرف أسماء القادة الوطنيين في تاريخ بلاده بشكل دقيق، ولا ينشغل بتحليل أسباب الثورات والحركات الاجتماعية والسياسية في السجل الوطني، ولايعنيه كثيراً تحليل دلالاتها ومآلاتها، ولا ينخرط في جدالات فكرية طويلة المدى، لكنه يعرف أسماء ثوار تونسيين، يشاركون في هذه اللحظة في تظاهرات في شوارع بلادهم... يعرفهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ويرصد تحركاتهم، ويسمع هتافاتهم، فينقلون له الانطباع والفكرة والآلية، ويشعرونه بحلاوة إحساسهم لكونهم يغيِّرون تاريخ البلد، ويكتبون تاريخاً وطنياً وشخصياً، ويأخذون مصايرهم بأيديهم.حدثت قطيعة معرفية بين تراث الضبط الاحتماعي والسياسي الذي عرفته مصر على مر آلاف السنين وجيل شاب جديد في مصر، وبدلاً من تلك المواريث التي قادت البلاد إلى وضع قارب على الانهيار، تزود هؤلاء الشباب بقيم ومعارف وأفكار وأنشطة طازجة ومجردة ومنبتة الصلة عن التنظير والتأطير والرطانة.هذا الجيل لا يقرأ الصحف العامة، ولا يشاهد القنوات الرسمية ولا يسمع للمصادر التي ينتقيها الإعلام التقليدي، لكنه يعتمد على المواقع الإلكترونية التي يحررها بنفسه، ويصدق الرسائل النصية التي ترد على هاتفه الجوال، ولا يحفل بالرطانة، ولا اللغة الإنشائية القاموسية، لكنه يستخدم لغة جديدة، قصيرة وتلغرافية وشديدة الإيحاء مكثفة وواضحة وقادرة على الإلهام وخلق الانطباع.على مدى السنوات العشر الفائتة كان واضحاً لأي باحث مدقق أن النظام المصري بات على المحك وأنه دخل نفقاً مسدوداً لا يظهر ضوء في نهايته، وأن هذا النظام يقوم على قاعدتين أساسيتين: أولاهما احتفاظه بولاء القوة الصلبة التي تحتكر الاستخدام الشرعي لأدوات العنف وعلى رأسها الجيش، وثانيتهما القرار الإقليمي الدولي الذي يسانده ويجد في استمراره مصلحة ضرورية. لكن التطورات المتسارعة التي جرت أخيراً، والجيل الجديد الذي أعلن عن نفسه بوضوح في الأحداث التي اندلعت في 25 يناير، وما قبلها من تحضيرات وتجهيزات عبر شبكات التواصل الاجتماعي والشخصي المتفاعلة، غيّرت معطيات الموقف.شبح التوريث الكريه، وتغول الفساد، وانهيار الخدمات العامة، وانتشار الفقر، وانتهاك سيادة القانون، والغلاء المطرد للأسعار، والانسداد السياسي، وانقطاع التواصل مع النظام، وإهانة السمعة والكبرياء الوطنيين، وارتهان السياسة الخارجية للدولة وتقزيمها، والسماح بالافتئات على القرار الوطني من قبل قوى خارجية، كلها عوامل ساهمت في تهيئة الأوضاع لانتفاضة 25 يناير. لكن العاملين الأكثر حسما يتعلق أولهما بما جرى في الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهري نوفمبر وديسمبر الماضيين، ويتصل ثانيهما بما جرى في تونس في الأسابيع الأربعة الماضية.كانت الانتخابات البرلمانية الأخيرة تغيراً فاصلاً في الطريقة التي استقر كهنة الحزب الوطني الحاكم على استخدامها مع القوى الوطنية والمنابر السياسية وأحزاب المعارضة، وعكست عجرفةً واستعلاءً سياسياً من قبل جماعة مصالح داخل الحزب الحاكم غير مؤهلة وغير مبالية بأي شيء خارج نطاق مصالحها الشخصية الضيقة.أحس الشعب المصري، والجيل الشاب فيه، بأنه أهين وقمع وبات محل سخرية وتندر من الشعوب الأخرى، إذ أنتج كل هذا الفقر والغلاء والفساد والاحتقان السياسي برلماناً يتمتع بأغلبية للحزب الحاكم تناهز الـ %95.في غضون هذا الإحساس العميق بالمرارة والإهانة والانسداد كانت الأحداث في تونس تندلع والشعب يتظاهر ويرابط مجبراً النظام على الرحيل.شاهد الجيل الجديد من الشعب المصري «طاغية تونس» يركع ثم يرحل، وشاهد أفراد أسرته وعناصر بطانته، يفرون بثروة الشعب التي نهبوها، وتبادل الرسائل مع نظرائه من المنتفضين التونسيين، وعرف أنهم نزلوا إلى الشارع وأطاحوا الطاغية وعادوا إلى «الكيبورد» ليتواصلوا معه عبر «الفيس بوك»... الانتفاضة تتعولم، والتمرد ينتقل كعدوى، والثورة باتت ثقافة جيل.ما حدث في تونس، يبدو الآن في طريقه إلى مصر، وإذا تمركز في مصر ونجح، فلا شك أنه سينتقل إلى بلدان عربية أخرى، فتلك طبيعة الثورات، وتلك آليات العولمة.يحتاج المصريون إلى حكمة ودأب ورشد سياسي، كما احتاجوا إلى الشجاعة والتضحية، ويبقى حفاظهم على الأمن والأمان وتجنب الفوضى مهماً بمثل حفاظهم على الكرامة الوطنية ومستقبل البلاد.يحتاج العالم العربي إلى أن يعي الآن، وقبل تفاقم الخطر، أن الشعوب الجديدة تحتاج إلى قيادات جديدة، تعرف معنى العولمة وقيمها ولغتها ووسائل الاتصال عبرها.* كاتب مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة