لماذا إيثار إيران بإعمار العراق؟
- 1 -
كان الجميع يتوقع أن تصبح أميركا هي المتعهد الإعماري لإعادة إعمار العراق بعد عام 2003، فهي التي حاربت بعد أن ولَّى الجميع الأدبار، وهي التي تكلمت بعد أن صمت الجميع. وهي التي وقفت أمام جبروت صدام حسين حتى النهاية بعدما استنكف الجميع، فكانت هي الأولى بأن تنال القسط الأكبر من "الكعكة" العراقية، إذا كان هناك ثمة "كعكة"، وإذا كان هناك ثمة من سيتقاسمون هذه "الكعكة".وكان هذا المنطق، هو منطق التاريخ الصحيح، فيما شهدنا من أحداث ماضية، فعندما ساعدت أميركا على تحرير أوروبا من النازية، في الحرب العالمية الثانية، كان لها الأولوية في إعمار أوروبا من خلال مشروع "مارشال" الشهير للإعمار، وكانت نتيجة ذلك ازدهار الصناعة الأميركية والاقتصاد الأميركي، الذي كان المغذي الرئيسي للحرب العالمية الثانية، ولمرحلة ما بعد الحرب. وعندما كان للمساهمة المصرية العسكرية والسياسية والدبلوماسية الباع الأكبر في تحرير واستقلال الجزائر، دخلت الشركات المصرية على اختلاف نشاطاتها السوق الجزائرية وتولَّت عملية بناء وإعمار الجزائر من جديد بعد حرب التحرير الطويلة والمدمرة. كذلك كان الوضع في اليمن بعد 1962... والأمثلة كثيرة من التاريخ البعيد والقريب، وفي الغرب والشرق.- 2 -دهشتُ لتصريح نوري المالكي في أثناء زيارته الأخيرة لإيران واجتماعه بمرشدها الأعلى علي خامئني، ودعوة بلاده للقيام بإعمار العراق المهدم، ولعل هذه الدعوة رشوة مكشوفة– كما قيل– مقابل تأييد إيران لتكليف المالكي بولاية ثانية لرئاسة الوزراء في السنوات الخمس القادمة.فماذا قدمت إيران للعراق من تضحيات ومساعدات لتخليصها من حكم الطاغية السابق، لكي تُكافَأ بهذه المكافأة الثمينة، وهي القيام بإعمار العراق، بعدما سيطرت إيران على التجارة مع العراق، وبلغت صادراتها في 2009 ستة مليارات دولار، وهو أكبر من أي رقم حققته إيران طيلة علاقاتها التجارية مع العراق، كما صرح الملحق التجاري الإيراني في السفارة الإيرانية في بغداد؟! ومن المنتظر– كما قال الملحق أيضاً– أن يرتفع هذا الرقم إلى تسعة مليارات دولار هذا العام.ولو وضعنا كل هذا جانباً، والتفتنا إلى الاختراق السياسي والأمني الإيراني للعراق لوجدنا أن هذا الجانب كبير وخطير، ولعل الدليل القوي والبسيط والمباشر لهذا الاختراق، حرص معظم الزعماء العراقيين على نيل رضا إيران ومباركتها لأي خطوة سياسية عراقية، ومنها تأليف الحكومة العراقية المتعثرة حتى الآن، رغم مضي سبعة أشهر على الانتخابات التشريعية العراقية في مارس الماضي.فلا شك أن إيران سياسياً وتجارياً وعسكرياً وأمنياً واستخباراتياً... إلخ، أقوى بكثير من أي دولة غربية أو إقليمية في العراق، وأميركا بغبائها السياسي، قدمت العراق بعد 2003 لقمة سائغة وهنيّة، وعلى طبق من ذهب لإيران، ولا أبالغ في القول، بأن الصلافة الإيرانية النووية الحالية، والتقدم النووي الإيراني غير المبالي بالعقوبات الدولية، سببه ما تمَّ في العراق منذ 2003 إلى الآن، فلا شك، أن الحالة العراقية المتردية، هي التي جاءت بأحمدي نجاد في ولايته الأولى والثانية لرئاسة الجمهورية. ولا شك، أن غرق أميركا في المستنقع العراقي ثم الأفغاني، هو الذي صرفها وحدَّ من شراستها وعزمها تجاه الملف النووي الإيراني، وفي ظني، أنه لولا تورط أميركا في العراق وأفغانستان على النحو الذي تمَّ، وانتهى إليه، لما أوغلت إيران في تقدمها النووي، وأصبحت على مرمى حصاة من امتلاك قنبلتها النووية، التي هي بمنزلة "المهدي المنتظر"، كما سبق أن قلنا. - 3 -لو سألنا أنفسنا الآن: ماذا قدمت إيران من مساهمات إيجابية لبناء العراق بعد عام 2003، لوجدنا أنها لم تقدم غير الرشا السياسية لكل من طلب ذلك من السياسيين العراقيين اللاعبين على الساحة، وهي غضَّت النظر، وأعمت البصر، عن كل ما من شأنه إلحاق مزيد من الدمار والخراب في العراق بعد 2003. وهناك تقارير سياسية وإعلامية لا حصر لها، صدرت بعد 2003 ، تشير إلى مدى الدمار والأذى الذي لحق بالعراق من إيران، وتُلِّخص هذه التقارير هذا الدمار، وهذا الأذى بالمظاهر التالية:1 - منذ فجر التاسع من إبريل 2003 وإيران- نتيجة لتاريخها الطويل مع العراق، والممتد إلى آلاف السنين، ونتيجة لطول حدودها معه- هي الجارة الأولى المسيطرة على المقادير العراقية، وما من دولة، ابتهجت من سقوط نظام الطاغية صدام قدر إيران، التي حاربها صدام حرباً ضروساً، مدة ثماني سنوات (1980-1988)، أفنى فيها أكثر من مليون جندي إيراني ومثلهم من العراقيين وخسر أكثر من 500 مليار دولار. وفي كل يوم يمرُّ على العراق منذ 2003 إلى الآن وإيران تتلمظ تلمُّظ الفك المفترس لمزيد من الدماء في العراق، ومزيد من المكاسب والصفقات السياسية، والتجارية، والعسكرية، والأمنية.والساسة العراقيون يحجّون إلى العراق في كل مناسبة، كما يحج الإيرانيون إلى النجف الأشرف والأماكن العراقية المقدسة لدى الشيعة، يطلبون بركة ومباركة المرشد الأعلى على توزيرهم، وتوليهم للمهمات، فأصبحت طهران مزاراً مقدساً للسياسيين العراقيين، ففيها يبصرون الضوء الأخضر، ويسمعون "كلمة السر"، كما كانت لندن في عهد الاستعمار البريطاني وفي العهد الملكي، وكما كانت واشنطن قبل 2003.2 - لم تتقدم إيران منذ 2003 إلى الآن بأي مبادرة سياسية ديمقراطية للعراق، ففاقد الشيء لا يعطيه، وكيف نريد من إيران أن تتقدم بمشروع سياسي ديمقراطي للعراق، وهي دولة ثيوقراطية دكتاتورية، ولو فعلت إيران ذلك، لكانت تضحك بذلك على نفسها، وتُضحك العالم الآخر عليها، وهذا مما قلّص فرص النجاح والظفر السياسي العراقي، وأوقع التجربة السياسية العراقية الحالية في مهاوٍ لا قيعان لها، بل قامت إيران على عكس ذلك، بتشجيع النعرات الطائفية والاصطفافات العشائرية، وأشعلت نار الفتنة بين السُنَّة والشيعة وبين الأحزاب الشيعية نفسها، مما جعل العراق ميداناً للفوضى السياسية الإيرانية، وكل هذا والنخب السياسية العراقية، لاهية ومشغولة بتقاسم الغنائم في الكراسي والأموال.3 - بعد 2003 تحقق حلم الخميني بتصدير الثورة الإيرانية للخارج، وها هو العراق (خاتم الخنصر) بإصبع إيران يستجيب لكل ما تطلبه منه، وعلى كل المستويات، وقد استعرضنا في مقالنا السابق (ما ثمن بقاء الزعيم على كرسيه؟ 14/10/2010) الشروط الإيرانية لتولي المالكي رئاسة الوزراء للمرة الثانية، وهي شروط قاسية ومهينة ومذلة لكرامة العراق والعراقيين، لم تفرضها أميركا وهي المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على اليابان أو على ألمانيا، بعد هذه الحرب.4 - ويكفي العراق أفواج وموجات الإرهاب التي دفعت بها إيران للعراق للثأر من حربها معه طيلة ثماني سنوات، ويكفيه كذلك، ما قامت به إيران من تسليح للميليشيات الدينية الطائفية، تمهيداً ودفعاً لحرب أهلية طائفية دينية، وقد كشفت أخيراً الوثائق التي نشرها موقع "ويكيليكس Wikileaks" عن العلاقة العسكرية والمالية بين "جيش المهدي" و"تنظيم بدر" الإرهابيين وبين إيران.* كاتب أردني