في العدد الأخير من مجلة «NY Review of Books» الأميركية قصيدة صغيرة للشاعر الهندي «كبير»، مترجمة عن اللغة الهندية. وقبل أن أعرّف بهذا الشاعر رغبت أن أقدم للقارئ ترجمةً أولية لهذا لنص الشعري:

Ad

ما الذي تستطيعه من كلامٍ عن الكلام

غير أن تتركه يستلب منك هويّتَك؟

أن تعيش دونه أمرٌ لا يمكن أنْ يُتخيّل

وأمرٌ مستحيلٌ أن تحتمل معه العيش

لأن الكلامَ يحطّ من قدْرِك.

مع الحكيم إن تكلمتَ تتعلم الكثير

ولا تحصلُ، إن تكلمتَ مع الأحمقِ، إلا على الثرثرة.

خذِ الكأسَ نصفاً،

تسمعْ صوتاً مدوياً،

وممتلئةً خذْها، يقولُ كبير،

تجدْك تسمعُ الصمت.

والعجيب أن هذا الشاعر الذي يحاول هذا المدى الميتافيزيقي، كان يؤلف قصائده باللغة المحكية، ويلقيها على الناس شفاهة. والناس يتناقلون ما يؤلف ويدوّنون.

والعجيب أن هذا الشاعر الذي ولد من أبوين مسلمين، والذي ذهب مذهب الزهاد المتصوفة في لغة الشعر الرمزية، درس على يد متعبّد هندوسي، وأصبح مُريداً، دون أن يتحول عن الاسلام. على أن توجهه الديني الإسلامي- الهندوسي لم يستقم مع التوجه العقائدي المتزمت من أية جهة جاء. وهو لا يتردد في الابتهال داخل المسجد الجامع، أو داخل المعبد. وكعادة المخيلة الهندية البارعة اصطنعت للقاء الأستاذ بالتلميذ حكايةً شيقة تقول: إن المتعبد «رامانادا» الهندوسي ذهب ليغتسل في نهر «غاجيس» أول الفجر، وما إن خاض في الماء حتى أمسكت كفُّ صبي بإبهام قدمه، وكان على ظهر الكف اسم «كبير» مكتوباً بالعربية، وهو الاسم السابع والثلاثون من أسماء الله، فتبنى الشيخُ الصبيَّ المسلم، وهو التصرف الذي أنكره تلاميذه فيما بعد.

والعجيب أيضاً أن هذا الشاعر أمسك بيد الحياة الأرضية والحياة الروحية الصوفية في آن معاً، واصل عمله كحائك ولم ينقطع عن مسلكه كمتأمل، وحّد بين رب الأسرة والإنسان الاعتيادي فيه وبين الشاعر المنفرد.

كان الشاعر كبير (1440-1518)، الذي يكتب باللغة الهندية وليد تطور أكثر الحركات الشعرية نشاطاً في جنوب الهند، وهي حركة «بهاكتي»، أو الإيمان بالحب، منذ القرن السابع، والتي وقفت في وجه المد العام للبوذية آنذاك، كما كان وليد تأثيرات متداخلة من الهندوسية، التي تمثل آخر مراحل التيار البوذي، ومن الوافد الجديد المتمثل في الإسلام.

في القرن السادس عشر كانت الهند قد احتُلّت من المغول شمالاً، وإذ حكم المغول وثبتوا سلطانهم أورثوا أهالي البلد لغةً جديدة، مولّدة من المغولية والفارسية، تحولت من محكية إلى مكتوبة باستعمال الحرف العربي، وهي اللغة الأوردية. ولقد جاءت هذه المرحلة بعد مرحلة الاحتلالات المتتالية، التي قوّضت صرح الثقافة الكلاسيكية الهندية، عميقة الجذور والتركيب، بحيث لجأت الأخيرة إلى محاولات يائسة لتوليد متنفسات ومخارج تعبر من خلالها عن خميرتها الروحية، فتخرج شعراء بخصائص الزهاد الحكماء، خاطبوا الناس بلغاتهم المحلية المتعددة، واستوحوا الرموز ذاتها، مطعمين اللغات التاميلية والسنسكريتية بذلك الجلال الأدبي، الذي شهدته اللغة الإيطالية على يدي دانتي وبيترارك.

مما أفرزته تلك الموجات، على أثر شيوع الدين الإسلامي، وذلك في تركيبة مولدة من الهندوسية والإسلام، واحد من أشهر شعراء تلك الحقبة، هو الشاعر «كبير».

قصائده، التي برعت بفن الغزل الرمزي والتطلّع الروحي عبر فاعلية الحواس، تكشف عن جرأة مثيرة في مهاجمة التزمّت في زمانه، وهو باستعاراته الحرة من مخزون اللغتين السنسكريتية والفارسية، استطاع التعبير عن الحكمة الشعبية، جنباً الى جنب مع همسات حبه الرمزي. وعن لغته الهندية ترجم الشاعر طاغور قصائده إلى الإنكليزية، ومنها شاعت إلى اللغات الأخرى.