الصيف بدأ، وقد عدتُ من براغ قبل ثلاثة أيام. براغ تحفة معمارية في عينيك، حيث تسير على جانبي نهرها «فيتافا»، وحيث تلتفت في الساحات وداخل الأزقة، هذا إذا ما غيّبتَ وعيك عن الحضور الكاسر للحيوان السياحي المبتذل. العاملون في الخدمات العامة غلاظ. المطبخ التشيكي رديء. التشيكيون خارج أسوار السياحة طيبون. رائحة موتسارت، دفورجاك، سميتانا في أكثر من مكان. ولعلها كذلك لأنهم موسيقيون من أيام المجد، وقاعات العزف مازالت ماثلة تحت ظلالهم الوارفة. ولكن كافكا يظل الأكثر حضوراً: هو الطريدةُ، وأنا الصياد. وسط المدينة القديمة، وفي الحي اليهودي منها، لم يبقَ من بيتِ ولادته إلا غرفة مستطيلة في الطابق الأرضي، مُرقّعة بعشرات القصاصات من الصحف والصور. وله بيت مُعتزله، ومقاهي لهوه الفكري مع الصحبة المولعة بالأسئلة. كنت ألاحقُ آثاره الفيزيائية وفي رأسي تتردد أصداءٌ لا تُقاوم من آثار قصصه ورواياته ومذكراته ورسائله (وهل تُنسى رسالته الطويلة الى والده؟).

Ad

إلا أن السياحة سطّحت كافكا، بل لوثته برائحة اليورو والدولار. فهو بوستر، وميداليةٌ، وإناء شاي، وكأس خزف، وفنجان قهوة، وتي شيرت. يحدق بابتسامته الأسيانة، التي تُخفي عن السائح الرؤى الكابوسية، ومرض التدرن الرئوي، وكدمات أب بالغ القسوة، والموت في عز الشباب. كما تُخفي عن السائح مقاومته الرائعة لكل تلك العلل في فعل الكتابة الذي لم يتوقف ولم ينضب، حتى موته المبكر وهو في الواحد والأربعين. كان يرى في الكتابة الفأس الذي يحطم جليد الصمت في حياة الكائن الداخلية، على حدّ قوله. وكان هو أكثر المولعين بهذا التحطيم.

أمام مسرح «الاستيْت» (بُني في أواخر القرن الثامن عشر)الذي يشبه قطعة حلوى بفعل حلاوته، وقفتُ أتخيل موتسارت، في أواخر عمره الشاب، وهو يترجل من العربة، ليقتحم البوابة مُسرعاً، باتجاه الأوركسترا، حيث سيقدم العرض الأول لرائعته «دون جيوفاني»، في أُكتوبر عام 1787. بعد أن قطع الطريق من مدينته فيينا إلى براغ. هذه الرحلة التي استهوت الشاعر الألماني أدورد موريكة (1804-1875) فكتب روايته القصيرة واسعة الشهرة «رحلة موتسارت إلى براغ»، التي تعرض بصورة بالغة الحيوية هذا الفنان الذي لا يكف، رغم هموم العيش، عن الإبداع الرفيع، وعن الدعابة والعبث.

كنتُ أتخيل المشهد القديم، فيما الجمهور يتدفق أمامي خارجاً من البوابة بعد عرض عصري لأوبرا «دون جيوفاني»(هل كان عرضاً سياحياً؟). على أن موتسارت قدم سيمفونيته رقم 83، التي حملت لقب «براغ» ، هنا أيضاً. موتسارت مات مثقلاً بالديون، والهموم، والمرض شأن كافكا، وعمره لم يتجاوز الخامسة والثلاثين.

لم أنته من الذاكرة الموسيقية هنا في براغ، فأنصاب أعلامها مزروعة في كل مكان، تحت ظلال مسارحها العديدة. لم أنته لأنصرف إلى الفن التشكيلي في الغاليري الوطني الضخم. إنه المبنى الحديث الوحيد بطوابقه الخمسة. كل طابق يخص طرفاً وطنياً وعالمياً. الطابق الأول للموروث العالمي الحديث: غوستاف كلِمْت في الواجهة عند المدخل، إيغون شيل بالبوح العصابي الداخلي، كوكوشكا بعنف الفرشاة التعبيري، مونك بالنفس المرتاعة، وآخرون لا يقلون قيمة. الطابق الثاني للفن الوطني التشيكي الحديث والمعاصر (القسم الثالث)، حيث تليه أقسام في الطوابق الثالث والرابع والخامس. فيها وقعت على فنانين مُفضلين، لا ينتسبون إلى تجريدات ما بعد الحداثة، من أمثال كوبكا الذي سعى إلى تشكيل اللحن والهارموني الموسيقيين، والرمزي جان بريزلر، وعدد من النحاتين الكبار. في الطابق الثالث نخبة من الفنانين الفرنسيين، وبيكاسو الإسباني ضمناً. على أن خطاي تسارعت، دون مشاعر ذنب، وأنا أدلف إلى أقسام الفن التجريبي المعاصر.

أرض براغ الحجرية توجع القدم. والمشي يقاوم الألم بفعل الافتتان. جلست في مقهى «سلافيا» أكثر من مرة: مقهى الأدباء والفنانين. المقهى الذي كان يرتاده الجواهري في سنوات منفاه. كنت أعرف أن إلى الجوار بائعة السمك، التي عاتبها الشاعر على قسوتها مع «عروس البحار»، في قصيدة له معروفة، فاكتفيت بالاستعادة:

فقلنا لها: يا ابنة الأجملينَ من كلِّ بادٍ ومن حاضرِ

و يا خيرَ من لقّنَ الملحدين دليلاً على قدرةِ القـــــــــــادرِ

جمالكِ، والرقّةُ المُزدهاة خصمــــــان لـلــــــــذابحِ الناحرِ