تبدو الصورة دالة، لطائر يرفرف بجناحيه فوق عش مخبّأ بين أغصان شجرة، ليزق في أفواه صغاره شيئاً من بذر الأرض، يغذي أجنحتهم الصغيرة كي تقوى على الطيران، ومعانقة الحياة. وهو المشهد عينه بالنسبة لأم تحنو على طفلها، تأخذه لصدرها الحنون، ترضعه الحياة. وكأن الأم لا تكتفي بأن تكون حاملة لبذرة الحياة بين أحشائها، بل تصرّ بغريزتها، على أن تمنح رضيعها شيئاً من روحها، وكأن هذه الروح لا تستقيم إلا بالعطاء، وكأن هذا الصغير، لن يُكتب له العيش، إلا على نسغ أمه.
كلٌ منا يحمل حياةً جاء بها من حياة ورائحة أمه. وكلٌ منا يحمل شيئاً من أمه في جسده وروحه ومسلكه ونطقه. وكلٌ منا، مهما امتد به العمر، يعيش يومه، وشيء من أمه معه. أثبت العلم الحديث أن السنوات الثلاث الأولى، هي السنوات الأهم في تشكل شخصية أي إنسان، وأن ما يأتي تالياً إنما يكون صدى لترجمة ما ترسب في الروح من حياة تلك السنوات. وربما هي كذلك لأنها سنوات حنو الأم بامتياز، ولأنها سنوات الرضاعة بامتياز، رضاعة حليب الحياة، وحليب المحبة والصوت والكلمة واللون والحس والمشاعر. وهذا يفسر كيف أن سنوات الطفولة، هي السنوات الأكثر حضوراً في سلوكنا ووعينا، حتى لو لم نعِ ذلك، فهي المتحكم في اختياراتنا، بدءا بمذاق الأطعمة، مروراً بالروائح والألوان الأقرب لنفوسنا، وانتهاء باختيار شريك الحياة. وحده حضن الأم، هو الذي يشكّل ويلوّن قالب روح الإنسان الذي سيصاحبه طوال حياته. وأياً كان عمر الأم، وأياً كانت درجة وعيها، وأيا كان ظرف حياتها، فإن عنوان علاقتها بصغارها هو الحب والتضحية والعطاء. الأم مانحة حياة، ويكفيها ذلك عنواناً لوجودها. لقد درج الإنسان على الشعور بمتعة الأخذ، لكن هناك متعة أخرى، لا توازيها أو تجاريها متعة، وتلك هي متعة العطاء، وليس من عطّاءٍ كالأم، وليس بعطاءٍ كعطاء الأم. أمي، لك الرحمة في حياتك ومماتك، فمنك رضعت نسغ الحياة، ومنك تعلمت لذة العطاء ووصل الآخر. إن ربطاً بين عيد الأم ويوم الشعر العالمي، يحمل دلالة كبيرة. فالأم شجرة الحياة، والشعر لون تلك الشجرة المورقة. الأم نبع الحرف والكلمة المصبوبة في أذن روحي، والشعر ذاك الكلام المحلى بنطق أمي. أمي تلك اللمسة الحنون التي تمسد وجع روحي، والشعر هو العافية التي سرت في عروقي على وقع كلمات أمي. أمي حضنٌ احتواني وناغى حضوري الأول، والشعر ذلك المشهد الأجمل لحياة ما كان لها أن تكون لولا الأم والكلمة. الأم والشعر وجهان لعملة واحدة. الأم والشعر مانحان للحياة. كلاهما مرتبط بوشائج لا يمكن فكها أو فصلها عن الآخر. فأول كلمة رنت بأذني هي بعض من حسِ أمي، وأول بيت شعر مرَّ على مخيلتي جاء على لسان أمي. دفء حضن أمي قصيدة، ولمسة أمي قصيدة، وبحة أمي قصيدة، ونظرة أمي، وأغنية أمي، وحياة أمي حياة أعيش بها، حاملاً الشعر بقلبي.
توابل - ثقافات
عيد الأم... يوم الشعر!
22-03-2011