«ليس من رأى كمن سمع» مقولة أعتقد بها وألتزم بها، فمشاهدة الوضع على الطبيعة ومعايشة الواقع أفضل كثيرا من الاستماع لآراء الأصدقاء أو تحليل الصحف والفضائيات، لذا لا أستطيع الغياب عن مصر أكثر من شهرين أو ثلاثة على الأكثر.

Ad

عدت من القاهرة منذ يومين وكانت هناك مشاهد عديدة تعبر وتفسر الكثير من الأحداث، وقبل الحديث عنها لابد من ذكر حقيقتين: الأولى: أن الفساد في العهد السابق كان أكبر بكثير جدا مما كنا نتصور، بل أكبر مما كان يعرفه بعض الحكام العرب الذين تعاطفوا مع مبارك في بداية الثورة وعند خلعه، ثم بدأ هذا التعاطف يتناقص تدريجيا مع الكشف المتواصل عن الفساد الكبير الذي عاشته مصر في عهده.

كما أن الفساد كان فساد أنظمة systems لا فساد أفراد، وفساد الأفراد يمكن التخلص منه بسهولة وسرعة بالخلاص من الأفراد أنفسهم، أما فساد الأنظمة بآلياته وأدواته وخططه ومنهجه فقد يحتاج إلى شهور أو سنوات للتخلص النهائي منه، كما أن هناك فسادا نوعيا، فلا يمكن مثلا مقارنة فساد المحليات (رشوة- واسطة- محسوبية) بفساد الداخلية (اعتقال- تلفيق جرائم- قتل) أو فساد الإعلام وتأثيره في تكوين الرأي العام ونشر أفكار بذاتها، والترويج لخطط محددة بفساد الرياضة، وأزمة نادي الزمالك وحصول الأهلي على البطولة لسنوات متتالية.

أما الحقيقة الثانية: فهي أن الشعب كان يعتقد أن الخطوة الأصعب والأهم هي رحيل مبارك– وهذا حق- ولكنه كان يرى أيضا أن ما بعدها سهل ويسير، وهذا خطأ كبير، فرحيل مبارك ليس سوى رحيل فرد فاسد ومفسد، أما القضاء على الفساد كمنظومة ومنهجية فيحتاج إلى وقت طويل، لذا بدأ البعض– بحسن نية– التململ والضيق من ضعف وبطء خطوات الإصلاح.

أما عن المَشاهد فسأكتفي بمشهدين؛ المشهد الأمني والمشهد الاقتصادي:

المشهد الاقتصادي: ويلخصه سعر صرف الجنيه أمام الدولار، فقد انخفض انخفاضا حادا وسريعا، ويوميا خلال الشهرين الأولين من الثورة، وفقد ما يوازي 8% من قيمته، وفي الشهرين الأخيرين توقف الهبوط واستقر السعر تقريبا، فلم يفقد أكثر من 1%، كما أن أسعار السلع الغذائية تشهد شبه استقرار، وتغيرها في الحدود الطبيعية لمثل هذا الوقت من العام، وهاتان الدلالتان تعكسان بدرجة كبيرة بداية الاستقرار الاقتصادي ونهاية الفوضى الاقتصادية التي أعقبت الثورة مباشرة.

المشهد الأمني: سأتركه لرواية شاهد عيان «منذ حوالي 3 أسابيع وفي الرابعة بعد الظهر حاول بعض الخارجين على القانون إيقاف السيارات في شارع «التسعين» في القاهرة الجديدة، وما إن شاهدهم سائقو سيارات النقل ونصف النقل حتى أوقفوا عرباتهم ونزل السائقون والتباعون وبيد كل منهم ما استطاع حمله (عتلة حديد- عصا خشبية- أنبوب مطاطي) وفي دقائق سمع الجميع صوت سيارة الشرطة فهرب المعتدون سريعا»، ورواية شاهد العيان تؤكد أولا التصدي من المواطنين للخارجين على القانون– دون خوف كما كان سابقا- وثانيا الوجود الأمني في الشارع، وبالتأكيد لا يعتبر الوضع الأمني الآن هو ما نتمناه لكنه أفضل كثيرا مما كان منذ شهرين في زيارتي السابقة.

يتبقى المشهد الأكثر سخونة وأهمية وهو المشهد الطائفي وأستأذن القارئ أن أفرد له المقال القادم.

***

الحديث الصحفي والسياسي للأستاذ محمد حسنين هيكل على صفحات الأهرام هو درس في الصحافة والتحليل السياسي والصدق والواقعية لمن يريد أن يتعلم... وكفى!!