قرأت منذ زمن بعيد نسبيا مقولة لنابليون يفسّر فيها السبب في قلة ظهور قادة عظماء، أنا لا أتذكر مقولته حرفيا، إلا أنني أتذكر جيدا مضمونها، قال: إن الحصول على السلطة يتطلب قدرا مطلقا وعاليا من الحقارة، بينما ممارستها تتطلب قدرا مطلقا وعاليا من العظمة، وهاتان الصفتان (الحقارة والعظمة) نادرا ما تجتمعان في ذات فرد واحد ليصبح بالتالي قائدا عظيما بحسب رأي نابليون!!!

Ad

والعظمة هنا ليست بمعنى القوة، وإن لم تخل منها، وإنما تعني القدر الرفيع من جملة المبادئ الأخلاقية السامية من نبل ومروءة وعدل وحُلم وشجاعة في الحق وحس عال في ملامسة الجوهر الإنساني واحترام الخصم وحفظ كرامة الآخر وإلى آخر سلسلة هذه القيم الرائعة.

ولو سلّمنا جدلا بمقولة نابليون رغم ما فيها من نَفَس براغماتي، فهذا يعني أن الأشخاص الذين لا يحملون بين أضلعهم سوى العظمة الخالصة، بالمعنى الذي ذكرت آنفا، مستبعدون من الوصول إلى سدة السلطة لسبب جوهري، وهو أنهم يفتقرون إلى الحقارة، وليس أي نوع من الحقارة بل الحقارة المطلقة!

نوع من الحقارة يتطلب أن يكون المرء دنيئا إذا لزم الأمر، وخسيسا، وظالما ومخادعا، وكاذبا، وخائنا لا يحترم عهدا، وماكرا لا يصون وعدا، وأفّاقا ومنافقاً، ولئيما، ووغدا وسافلا وكل ما شئت من الرذائل!!

إذا قارنا صفات العظمة بالمعنى السابق وصفات الحقارة الموضح أعلاه، نكاد نجزم بأنه من المستحيل أن تجتمع العظمة والحقارة في روح واحدة!!

لكن نابليون يؤكد أن ذلك ممكن وإن بشكل نادر جدا واستثنائي، وهؤلاء هم المؤهلون لأن يكونوا قادة عظماء!!!

هذا رأينا كأشخاص عاديين وطبيعيين أمام رأي شخص غيّر مجرى التاريخ وصنع أحداثه كما يشاء لا كما تشاء الصُدف.

ورغم عاديتنا نحن الدهماء وبساطتنا المتناهية، فإننا لم نعاصر في واقعنا ما يؤكد رأي العظيم نابليون، فيكفي أن نراقب ما يحدث الآن في وطننا العربي على سبيل المثال من أحداث لنتأكد أن بعض من يتربعون على عرش السلطة لا يتمتعون سوى بصفة واحدة من الصفتين اللتين ذكرهما السيد نابليون، علما أنهم دائما ما يؤكدون لنا بشتى وسائل التعبير أن العَظمة إحدى صفاتهم الجينية الوراثية، والتي تسري في كل خلية من خلايا أجسادهم!

مما يجعلنا نتساءل: هل تغير مفهوم العظمة من زمن نابليون إلى هذا الزمن؟!

هل أخذت العظمة نهجا فلسفيا في طبيعتها مغايرا عما كانت عليه؟! أم أن العظمة كما أي قيمة أخلاقية أخرى لا تتغير على مدى الزمن، وإن تغيّرت فالذي يتغيّر هو صورتها الخارجية تبعا للظروف وليس جوهرها ولا روحها التي تبقى كما هي مهما تغيّر الزمن وتبدّلت الظروف، أم أن الموضوع كله ينحصر في الرأي العجيب الذي يؤكد أن العقل العربي له آلية عمل تختلف عن أي عقل آخر على هذه الكرة الأرضية؟!

إذا كان الأمر كذلك فنحن بحاجة إلى نابليون عربي يفسّر لنا مفهوم العظمة!